عطلة عائلية إلى جزيرة فارو تتبعها إنغمار بيرغمان «عبر زجاج مظلم» كما جاء في عنوان الفيلم، وهو اقتباس من الكتاب المقدس في إيماءة لا أراها فقط تأتي لتصف الجو العام للعمل، بل أيضًا تصف طبيعة وجزء من تجربة بيرغمان وصراعه مع الإيمان وطرحه في أعماله بِعِدّة أوجه، أكثرهم تفردًا وقربًا لروح بيرغمان كان العمل الذي نحن بصدد الحديث عنه، حيث اختار بيرغمان أن يصور ديناميات عائلية معقدة ضد خلفية المرض العقلي، والصراعات الوجودية، والبحث عن المعنى في عطلة عائلية على جزيرة نائية حيث تدور الأحداث حول عائلة كارين، وزوجها مارتن، ووالدها ديفيد، وشقيقها الأصغر مينوس. يتتبع العمل تفاعلات كارين مع عائلتها إذ يبدو أنها مصابة بنوع من الاضطراب العقلي (لاحقًا نكتشف أنه انفصام الشخصية) ويعلم ديفيد أن علاجها غير ممكن، في أجواء مشحونة عاطفيًا بين أفراد الأسرة خلال عطلة صيف كاشفة عن فوضى عوالمهم الداخلية وهشاشتها. يتصارع العمل مع موضوعات العزلة والاغتراب والبحث عن الله في كون غير مبال.
العنوان نفسه هو إشارة إلى آية من الكتاب المقدس كما ذكرنا، تعكس استكشاف الفيلم لحالة الإنسان تحت تأثير المرض العقلي، وكيف تكون حدوده مشوهة بين الواقع والوهم. التصوير السينمائي على نحو مرعب يكمل الكثافة العاطفية، فقد خلق جوًا من التوتر المتوقع والعمق النفسي، وأيضًا استخدام المناظر الطبيعية القاسية للجزيرة ساعد على عكس الطبائع الداخلية للشخصيات، مرددًا عزلتهم العاطفية والارتباك الذي يعيشونه. كان للتصوير السينمائي دور كبير بواسطة «سفين نيكفيست» Sven nykvist بأسلوبه المتبع لاستخدام التباين والإضاءة، حيث يضيء وجوه الشخصيات على نحو منفصل، في تجربة تضفي إلى الأداءات بعضًا من تأثير الأسلوب المسرحي لاستكشاف موضوعات النور والظلام بدقة شديدة.
أميل بعض الشيء إلى القول بأن هذا العمل ربما يكون واحدًا من أكثر الأعمال الشخصية لبيرغمان، فمَن اطلع على سيرته الذاتية يعلم أن أغلبها يدور حول التعقيدات الأُسرية وضعف روابطها والمسائل المعقدة حول معضلة الإيمان وحتى عملية الكتابة نفسها.
برزت الكتابة عنصرًا أساسيًا من عناصر العمل مع شخصية ديفيد المهووس بأعماله الكتابية، حيث يركز على روايته التي قاربت على الانتهاء في حين يحاول إعادة الاتصال بالعائلة وتحسين مزاجهم عن طريق تقديم الهدايا، إلا أن كل محاولاته يغلبها بعض الفتور ولا تجدي أي نفع. يُلخّص مينوس على نحو رمزي علاقةَ الوالد بالعائلة في مشهده حيث يلقي مسرحية كان قد كتبها عن شخص يختار الشهرة على حساب الحب.
رغم أن العمل يتمحور حول شخصية كارين والإسقاطات من خلال مرضها العقلي، فإنني أُفضّل أن أرى جوهر الفيلم عن طريق النظر إلى ما يحدث حولها، مما يجعلها عاملاً ثانويًا للفيلم الذي أرى أنه يمثل رحلة البحث عن جوهر الحب ذاته. مثّلت كل تصرفات العائلة بشكل ما محاولاتٍ لخلق هذا الحب في بيئة سامة متوترة، وعليه فمن المنطقي أن يولد الشعور مشوَّهًا، يتبين في محاولات ديفيد خلقه بالهدايا، أو العلاقة الحميمية بين مينوس وأخته كارين، أو المشهد حين يقدم ديفيد جملة حوارية مهمة: «من الفراغ الداخلي، وُلِد شيء لا أستطيع لمسه أو تسميته. حُب. لكارين. لمينوس. لك».
كارين المُتعبة من العيش في عالمين هي الحلقة الأضعف والأهم للعائلة. يشكّل حنينها للاتصال والتفاعل مظهرًا لرغبتها المؤثرة في الحب والقبول من عائلتها، ويُعتبر سيرها خلال لحظات الوضوح وانغماسها في الجنون دراسةً مقنعة للحالة الإنسانية والحدود المشوشة بين الواقع والتصور. كل رمزيات العمل لا يمكن أن تُرى إلا من خلال كارين فحسب؛ لكل شخصية صراعها مع شيطانها الداخلي، صراعات تكمل كارين معناها من خلال الرمزيات من حولها، فمثلاً تصبح يومياتها رمزًا مهمًا لتجسيد الأفكار والخيالات الأعمق، وربما أيضًا تأتي بمثابة اعترافات كاشفة عن صراعها مع الواقع ومحاولاتها اليائسة لفهم ما يدور من حولها. طوال دقائق العمل اعتُبرت المرايا والانعكاسات رموزًا متكررة، تشير إلى الوعي بالذات والتفكير الداخلي والبحث عن الهوية، عن مواجهة الشخصيات لأنفسهم الداخلية على نحو متكرر، مستكشفين رغباتهم ومخاوفهم وعدم الأمان. تُعتبر هذه الأسطح العاكسة هي استعارة مباشرة للحالة البشرية، حيث يتعين على الأفراد مواجهة تحدي فهم طبيعتهم الحقيقية من خلال صراعاتهم، وهو الهدف من تلك المناظر الرمزية والمجازية، بما فيها الصور الدينية التي عملت على عكس الأزمات الوجودية للشخصيات وبحثهم عن المعنى الروحي في عالم مليء بالشكوك والكشف عن تعقيدات الإيمان بطريقة تسلط الضوء على التوتر بين الوجود الإلهي ومعاناة الإنسان.
يُتّخذ قرار بوضع كارين في مصحة نفسية. بينما ينتظرون وصول سيارة الإسعاف، تبدأ كارين في جمع أشيائها متحدثة عن كيفية اعتقادها بأن الأصوات في الجدار كانت تحاول أن تقودها إلى الله. تقول إن وصوله قريب. يصبح واضحًا أنها سقطت أخيرًا في جنونها. تحكي عن عنكبوت زارها وحاول اغتصابها. في الوقت نفسه، نرى مروحية الإسعاف تهبط بجوار المنزل. تبدو هي نفسها كعنكبوت يهبط من خيط غير مرئي في إشارة بصرية رائعة تُظهر أن كارين، كما تقول، متأصلة بطريقة ما في العالم الحقيقي ولكنها غير قادرة تمامًا على التأكد من الصلة. تطرق الممرضة الباب، وتضع كارين النظارات الشمسية في إيماءة رمزية أخيرة لها للانضمام إلى العالم الآخر.
يتجلى أخيرًا -بعد رحيل كارين- الارتباط العاطفي بين الأب والابن، وهو ما كان يسعى إليه مينوس منذ البداية. يخبر ديفيد ابنه بأن عليه أن يجد شيئًا يتشبث به إذا أراد العيش. يستهزئ مينوس ويتساءل إذا كان والده يشير إلى الإيمان، ثم يطلب من والده معرفة هذا الكنز، أو السؤال الغامض الذي ظل البشر يبحثون عن إجابة له على مر العصور -دليل على وجود الله- وهو لا يعتقد أن والده يمتلك إجابة، لكن والده يجيب بأنه يمكنه أن يُطلعه على إجابة، لكن يجب على مينوس أن يستمع. يخبر ديفيد مينوس أن الأمل يمكن أن يُعثر عليه في الحب، الحب الحقيقي. معرفة أن مثل هذا الحب موجود يكفي للتشبث به بالنسبة إلى ديفيد. يقول إن جميع أنواع الحب تستحق أن يُتشبّث بها، ثم يقول إحدى الجمل المهمة في الحوار:
«لا أدري ما إذا كان الحب دليلاً على وجود الله، أم إذا كان الحب هو الله نفسه.. هذا الفكر يساعدني في فراغي ويأسي المظلم».
تلك الفلسفة تعطي أملاً كبيرًا لمينوس، حيث يستنتج أن كارين يجب أن تكون محاطة بالله لأنهم جميعًا ما زالوا يحبونها. يوافق ديفيد ويُعبّر عن اعتقاده بأن مثل هذا الحب يمكن أن يساعدها حتى وإن كانت قد فقدت الاتصال بالواقع. وبينما يغادر ديفيد لإعداد العشاء، ينطق مينوس بالجملة الختامية للفيلم، التي تحمل وزنًا عاطفيًا لمعضلة العمل: «تحدث والدي معي»، وكأن في ختام الفيلم ينطق بيرغمان من خلال صورته بأن الحب يُعتبر دليلاً واضحًا على وجود الله، إذ نجد فيه تفرّدًا يفوق مفهوم الحب البشري، حيث يُفهم أن الله هو جوهر الحب نفسه، حبه لنا يظل دائمًا ومثاليًا، وتصوّراتنا البشرية عن الحب لا تعكس عمق هذا الحب الإلهي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش