مقالات

مبني على قصة حقيقية: الجانب المظلم

استكمالًا لحديثنا في المقال السابق «مبني على قصة حقيقية: الجانب المشرق»، نعرض هنا فيلمين حديثين أُنتِجا العام الماضي، يستعرض أحدهم حدثًا جديدًا والآخر قديمًا، ولكن العامل المشترك بينهما أنهما كليهما فشلا في أن يصبحا فيلمين جيّدين بدرجات متفاوتة، لأنهما انشغلا بسرد الحكاية الكبيرة ونسيا أن أكثر ما يعلق في الذاكرة هي الحكاية الصغيرة وانعكاسها علينا.
«قالت» (2022) She Said والرقص على السلم دون الحصول على أي شيء
يبدأ الفيلم بموسيقى موترة لنيكولاس بريتيل، أحد أعظم المؤلفين الموسيقيين حاليًا، تصحبنا منبئة بأن هناك لحظات خطر قادمة، وأن علينا أن نقلق. نرى شابة تتنزه على الشاطئ برفقة كلبها، تشاهد موقع تصوير وترتسم على وجهها ابتسامة وهي تشاهد هذا العالم السحري وكيفية صناعته، وسواء كانت تحلم بذلك أو أبهرها عالم الشاشة الكبيرة، فإنها تجد نفسها تدريجيًا داخل موقع التصوير وتشعر بسعادة بالغة، ثم تقطع ماريا شرادر مخرجة الفيلم هنا لتنقل لنا الفتاة وهي تجري مسرعة وكأنها هاربة. لا تحتاج إلى أن تكون ذكيًا لتعرف أن هناك شيئًا سيّئًا قد حدث لها، فوجهها ينقل كل شيء. كانت هذه بداية موفقة من ماريا لتضعنا في قلب الحدث منذ البداية من دون تمهيد، فلا حاجة إليه. نشعر الآن بهول المصيبة ونستعد لما هو أفظع. أشركتنا منذ اللحظة الأولى وأصبح لدينا رغبة في معرفة ماذا حدث، وتوجس على مصير الفتاة.
خيارات صائبة، ولكن غير مكتملة. تستكمل ماريا فعل الصواب في جعل القصة أعمق على مستوى الشخصيات، فهذا ما سيجعله فيلمًا عظيمًا وليس فيلمًا رائجًا بسبب قوة القصة وأهميتها فقط. وفي محاولة لجعل القصة من لحم ودم في البداية، نرى الصحفية جودي كانتور والتي تقوم بأداء دورها الممثلة زوي كازان، تحاول إقناع طفلتها بأنها ذاهبة بينما والدها على وصول، لتقرر الطفلة الأكبر أن تمارس دور الأم الصغيرة، لتأخذ أختها من يدها وتذهب للعب معها محاوِلةً إلهاءها لتسمح لأمها بالذهاب، ثم نشاهد ميغان توهي -والتي تؤدي دورها الممثلة كاري موليغان- داخل عيادة خاصة بالنساء ثم نتبعها في مَشاهد متفرقة سريعة حتى الولادة.
كل هذا مع تلميحات سريعة في البداية إلى صعوبة الموازنة بين العمل الصحفي الاستقصائي والحياة الأسرية، ومحاولات ذكية لإظهار أن أساس العلاقة الناجحة بين الشريكين، والتي تساهم في نجاح كلٍ منهما في مجاله، هي تقاسم أعباء كل شيء والمشاركة، ثم نعود بالتبعية لاستكمال المحاولات الناجحة ونتعرف إلى مشاعر ميغان التي تجد أن مهمة الأمومة بالغة الصعوبة، وملامح لأعراض اكتئاب ما بعد الولادة.
يصنع الفيلم كل هذه التفاصيل وأخرى في استثمار ذكي يعي أهمية أنسنة القصة وجعل الشخصيات الرئيسة تشبهنا، فهم ليسوا صحفيين ساعين لكشف قضية في غاية الأهمية فقط، بل هم بشر مثلنا لديهم مشكلاتهم الخاصة وأزماتهم، ويحاولون الموازنة بين حياتهم الشخصية والعملية، ولكن أين هذا من بقية أحداث الفيلم؟ فكل هذا حدث في العشرين دقيقة الأولى فقط!
بل لم يحاول الفيلم استثمار أنسنة الشخصيات حتى من جانب الضحايا، ويقوم بمحاولة بسيطة مع مرض لورا -الفتاة التي شاهدناها في أول مشهد- ولكنها محاولة غير مكتملة كالعادة، وهذه هي المشكلة وكأنه يعي ضرورة كل ذلك، ولكنه يتركه من دون سبب، هو يرقص على السلم، وفي النهاية لا يصل إلى أي شيء. 
تكاسل سينمائي. القصة الحقيقية تُكسب الفيلم شعبية واهتمامًا، تجعل المُشاهد ينخرط أسرع ويصدق ويتماهى مع ما يرى؛ هو لا يحتاج لأن تقنعه بأن هذا يمكن حدوثه، فهو يعرف بالفعل أنه حدث، ما بالك ونحن نتحدث عن فضائح التحرش والاعتداءات الجنسية في هوليوود والتي فجرتها الحملة العظيمة Me Too «أنا أيضًا»؟ لا حاجة إلى شرح ما حدث، فكلنا نعرفه؛ الحدث قريب وقد طال أسماء مشاهير أو تحدث عنه عديدٌ من المشاهير، سواء مَن تعرضوا للاعتداءات أو مَن أدانوا ما حدث. وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذا شيء يحدث كل يوم، فإننا نسمع ونعاصر عديدًا من قصص النساء اللاتي تعرضن إلى هذه القصص المريرة، بل ربما تكون قد شاهدتَ إحدى هذه الحوادث في حياتك اليومية في المواصلات أو في الأماكن العامة.
ولذلك لا تحتاج ماريا إلى بذل مجهود كبير لوضعنا في الصورة أو لنشعر بصعوبة وهول ما يحدث، فنحن ندرك ذلك من قبل أن يبدأ الفيلم، وبالعودة إلى سؤال المقال السابق: هل تكفي قوة القصة والأمانة في نقلها لصناعة فيلم يعيش لسنوات، قابل لعديد من المشاهدات أو حتى لوصفه بتجربة سينمائية تستحق المشاهدة؟ بالطبع لا. نسيت ماريا أنه لصناعة عمل جيد عليها اتباع بعض الخطوات الضرورية في أي فيلم لعمل اتصال مع شخصياته، لنعكس حياتهم علينا ونشعر أنهم يشبهوننا بدلًا من نقل الحدث فقط، ليصبح مثله مثل خبر تلفزيوني أو مقطع وثائقي، ولكن بممثلين بدلًا من شخوصه الحقيقية. تحاول زوي كازان وكاري موليغان حمل الفيلم على عاتقيهما، ولكن بلا فائدة. يقدمان أداءين جيّدين، ولكن ليس أفضل ما قدّما، فلا توجد تحديات كبيرة على مستوى التجسيد لكليهما.
ماريا شرادر في تجربتها الروائية الرابعة -بالإضافة إلى المسلسل ذائع الصيت Unorthodox «هاربة من الماضي»- تقدم في المجمل أداءً إخراجيًا باهتًا يشبه الأعمال التلفزيونية المتوسطة أو الضعيفة. التشابه هنا في كل شيء، سواء في أسلوب التصوير أو في الحوار وتصاعد الأحداث. لا توجد أي فلسفة أو اختيارات مترابطة لزوايا الكاميرا، والغريب أن هذا حدث في عصر أصبحت فيه بعض الأعمال التلفزيونية أكثر سينمائية من بعض الأفلام، ولكن أكثر ما أزعجني المَشاهد التي تحكي فيها النساء قصص الاعتداءات؛ نذهب لنرى الفندق وبعض اللقطات من الغرف والممرات بدلًا من أن نبقى معهن ونشاهدهن وهن يقصصن حكاياتهن. كنت أتمنى أن أرى هذا العمل تحت قيادة مخرجة مثل إيميرالد فينيل أو لين رامزي، اللتان لديهما القدرة على التعبير بالصورة قبل أي شيء.
 Argentina, 1985 «الأرجنتين، 1985» (2022) وأن تتحول لوثائقي ممل
وعلى عكس She Said يواجه المخرج الأرجنتيني سانتياغو ميتري صعوبةً أكبر في البداية، فيحتاج إلى أن يضعنا في أسرع وقت بداخل الصورة الكبيرة -الأرجنتين في الثمانينيات- والصغيرة منها -خوليو ستريسا وصراعاته- فليس كثيرٌ منا يعرف الوضع السياسي والاجتماعي في الأرجنتين منذ نهاية السبعينيات وحتى منتصف الثمانينيات.
يستخدم في ذلك الأداة المعهودة وهي كتابة بعض المعلومات المهمة والموجزة والتي تضعنا في قالب الحبكة وتُعرفنا بما نشاهد بالتحديد وتضع أقدامنا على حافة طريق سنسير فيه معًا مع صانعه، وفي محاولة للسير على الطريق الصحيح، نستهل فيلمنا بمشهد يشاهد فيه الأب ابنته مع أحدهم. نعرف فيما بعد أنه متوجس من هذه العلاقة، قَلَق مشابه لقلق أي أب في أي مكان في العالم. يُدخلنها المخرج في حياة خوليو قبل أن يتوغل في تعقيدات الوضع السياسي، محاولًا جعل العمل يتخطى كونه عملًا يحكي حدثًا تاريخيًا، لنتعامل معه على أنه حكاية أشخاص مثلنا يسعون لجعل بلادهم أفضل ويواجهون مصاعب يومية كالتي تواجهنا، فهم لا يقضون حياتهم كلها في المحاكم والمكاتب، بل يذهبون لبيوتهم ويحلون مشكلات أبنائهم ويحتضنون زوجاتهم ليشعروا بالأمان قبل نقل ذلك الشعور إليهن.
تفوق ملحوظ. ما يجعل فيلمنا يتفوق على الفيلم السابق ذكره هو كاميرا سانتياغو ميتري تحت قيادة المصور السينمائي الأرجنتيني خافيير جوليا. هي تعرف ماذا تفعل وماذا تود أن تنقل؛ في صورة أنيقة مع لقطات طويلة تساهم في خلق شعور بأن ما نشاهده حقيقي. كل الأداءات هنا متميزة، كبيرها وصغيرها، ويبقى في مقدمتها أداء الممثل الأرجنتيني المخضرم ريكاردو دارين. هنا توجد تحديات على عكس زوي وكاري، فالمدعي العام خوليو ستريسا يشعر بالخوف. هو متردد، بل يتهرب في البداية من مقابلة أحد المسؤولين الذي يعلم أنه سيفاتحه في أمر تولي القضية. هو يخشى أن يفشل في الزجّ بهم في السجن، أن يكون جزءًا من مسرحية هزلية، وأن يصبح عاجزًا عن تقديم المساعدة أو تغيير الوضع كما في الماضي. هنا، هو ليس البطل الشجاع الذي لا يهاب شيئًا، بل هو على العكس تمامًا، هو مؤمن بأن التغيير لا يُصنع على يد أمثاله، بل يتهمه بعضهم بأنه لم يقدّم شيئًا في أيام الديكتاتورية. يُضاف إلى ذلك التهديدات الملقاه على عاتقه ومحاولة حماية عائلته، وبين العائلة والوطن والأحلام الكبرى، ماذا سيختار؟ يبدأ بالخوف من كل شيء، حتى ركوب سيارته، وتشعر أن لسان حاله في البداية يقول لو خُيِّرت بين العدالة وأمي لاخترت أمي.
الحلو لا يكتمل
كل هذا كان جيدًا، وأضاف من حين إلى آخر خطوطًا أخرى كعلاقة أوكامبو -نائبه- بوالدته ومعارضتها لعمله لأنها تحب قيادات الجيش وتثق فيهم، أو المضايقات التي تتعرض لها بقية أعضاء الفريق ومحاولة ترهيبهم، ولكن كل ذلك توقف عند أول ساعة من زمن الفيلم الذي يبلغ ساعتين وعشرين دقيقة، ليتحول إلى وثائقي رتيب، جنح إلى المحاكمة والشهادات وتجميع الأوراق وإعداد المرافعة النهائية وتناسى الدراما. لم نعد نهتم بحياة شخصياتنا أو هواجسهم، وظللنا نستمع إلى شهادات متواصلة تصيبنا بالملل، مُحاولةً استخراج أكبر قدر من الدموع منا.
في النهاية وأن تصنع حكاية بداخل أخرى
لا تشعر أن الفيلمين يحملان أي شيء غير قوة الحكاية التي يقصّانها، متحصّنيَن بجاذبية الأحداث، متغافلين عن أنه عند عبور أسوار القلعة ستجدها فارغة من أي معنى أكبر، على عكس فيلم فينشر -The Social Network «الشبكة الاجتماعية»- الذي لم يكتفِ بجاذبية الحكاية الكبرى وصنع بداخلها حكاية عن الهوس بالذات والصداقة والغرور ومحاولة تحطيم الوحدة لتصل بصاحبها إلى عزلة أكبر. وعلى ذِكر فينشر، فإنه عندما أراد أن يحكي حكاية القاتل المتسلسل زودياك وما تحمله من إثارة واضحة كافية لشد الأعصاب، لم يكتفِ بذلك، لأن فينشر حكّاء ماهر يعرف من أين تؤكل الكتف ولديه هوس كبير بالحكايات عن المهووسين أمثاله، فصنع بداخل الحكاية حكايةً عن صحفي مهووس بالوصول إلى الحقيقة واكتشاف ما لم يستطع رجال الشرطة الوصول إليه، حتى لو كلّفه ذلك حياته وتعريضها للخطر. وبالرغم من أنني لم أحب تجربة «أوبنهايمر» في مجملها -وذلك لأسباب لا تتعلق بالأسباب العاطفية التي راجت على وسائل التواصل، ولكن لأسباب فنية بحتة- فإن نولان قد صنع فيلمًا سينمائيًا رغم عيوبه وهذا هو المهم. هو لم يكتفِ بقوة الحكاية عن أهم حدث في المائة عام الماضية، بل صنع حكاية عن رجل تملّكه الهوس لتحقيق إنجاز شخصي، مستعد للتضحية في سبيل ذلك بكل شيء، بما فيه علاقته بمَن حوله وحياته الشخصية وأن يصبح مكروهًا من الجميع، فقط من أجل أن يصبح رجل الساعة، صاحب الإنجاز الذي لم يسبقه إليه أحد، ثم حاول التطهر من كل ذلك فاستسلم لتعذيبهم وصُلب مجازًا، لكنه لم يكن المسيح، بل كان يهوذا، مَن خان البشرية من أجل أطماعه الشخصية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

أ. عمرو ممدوح
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا