مقالات

(1): هدم العائلة وإعادة بنائها على طريقة «ويس أندرسون» (ملهاة إنسانية)

حياة الإنسان على كوكب الأرض الممتدة منذ آلاف السنين يمكن تلخيصها -بطريقة مخلّة بعض الشيء- في كونها صراعًا مستمرًا مع السلطة، أيًا كان نوعها وشكلها أو امتداداتها، بين سلطة الواقع التي كانت مفروضة على البدائي وظلّ يقاومها بأن يجد طريقة للعيش حتى انتهى الصراع بالثورة الزراعية والتمدّن، من ثمّ بدأت سلطات جديدة في فرض قواها، منها الاجتماعي والسياسي والديني، واستمرّ الإنسان في الصراع لإيجاد مساحة، واختلفت تجلّيات هذا الصراع: المؤسسات بين بعضها، أو الجماعات ضد المؤسسات، أو الأفراد ضد المؤسسة والجماعة، ونتائج هذه الصراعات المختلفة هي ما شكّل العالم الذي نعرفه اليوم بكل مساوئه ومحاسنه.

الصراع مع السلطة هو موضوع أصيل في سينما ويس أندرسون، تناوله بأشكال متعددة وصور مختلفة، ومتابعة مسيرته الفنية كاملة تعطي تصوّرًا واضحًا عن انشغال أندرسون بموضوع السلطة ومقاومتها سواءً أكانت المقاومة فعلاً يقود إلى نتائج ذات قيمة أو ينتهي إلى الهزيمة الشاملة، ويمكن تتبع ذلك في كل نصوص الأفلام التي كتبها بلا استثناء.

السلطة التي تأخذ نصيب الأسد من اهتمام ويس أندرسون هي السلطة الاجتماعية في شكلها العائلي، أي خيوط السلطة الاجتماعية التي تملكها العائلة على أفرادها، وهو ينظر إلى العائلة باعتبارها كيانًا على الفرد مقاومتُه وهدمُه ومن ثمّ إعادة بنائه من جديد حسب رؤى مختلفة تتناسب معه، منطلقًا من فكرة تأسيسية تقول إن الفرد لم يختر انتماءه إلى هذا الكيان، ما يعني معاناته في عملية تأقلمه تحت ظلّه. وهذا ليس التناول الوحيد للموضوع، فقد صوّر أندرسون العائلة كذلك كملاذ للباحث عن الانتماء، وما يترتب عليه هذا الانتماء من إشكالات بسبب السلطة الاجتماعية التي يملكها الكيان.

يمكن القول بأن أفلام أندرسون الأربعة الأولى في الألفية الجديدة كانت كلها تدور حول هذا الموضوع بشقّي تناوله، حيث عرضته من زوايا عديدة. وفي سياق البحث التحليلي لأفكار أندرسون وتصوراته في هذا الإطار يجب ألا يتم إغفال الخلفيات الشخصية لأفلامه، وكونها تتماس مع سيرته الذاتية في نقاط كثيرة، فحسب ما جاء على لسانه: «أفلامي بطريقة ما تشبهني».

 

تينينباوم – الأثر السيكولوجي لسلطة العائلة: دمار شامل

يبدأ فيلم "The Royal Tenenbaums" باستعراض للمنزل العتيق الضخم المكون من ثلاثة طوابق الذي اشتراه الأب رويال تينينباوم (جين هاكمان) في شبابه ليكون بيت العائلة، وأنجب فيه هو وزوجته إيثيلين (أنجيلكا هوستن) ثلاثة أبناء. صورة المنزل الذي رغم ضخامته يشي بالحميمية، مع التعليق الصوتي الرخيم، يرسمان تخيّلاً في ذهن المشاهد عن الحالة المادية للعائلة وعن مزاج الحياة التي يعيشونها: غالبًا ستكون الفكرة أن السعادة تعيش داخل هذا المنزل. لن تطول المدّة حتى تأتي المفاجأة في المشهد الأول الذي تظهر فيه شخصيات الفيلم. الأب مجتمع مع أبنائه على طاولة اجتماعات بكراسٍ كثيرة، يجلس على رأسها، بينما يجلس الأبناء -وهم أطفال بعمر العاشرة تقريبًا- على الجهة المقابلة، في تباعد كبير وواضح، سيفسره ما سيدلي به الأب عن الطلاق الوشيك الذي سيحدث، مع إعلانه بأنه سيهجر المنزل بطلب من الأم. الأسئلة التي يطرحها الأطفال بعد أن يعلموا بالخبر هي:  «ألا تزال تحبّنا؟ - ألا تزال تحبّ أمّنا؟ - هل ما يحدث هو بسبب خطأ ارتكبناه؟»

ينتهي المشهد الأول، والأطفال في حيرة لن تطول كثيرًا، فالأم ستقوم بالدور كما يجب، وسريعًا ستحوّل أطفالها إلى نوابغ، بل ستدوّن تجربتها معهم في كتاب يحمل عنوان: "عائلة من العباقرة". الطفل الأول تشاز تينينباوم سيصبح رجل أعمال قبل أن يتمّ صفّه السادس وسيحوّل سكنه في الطابق الأول من المنزل إلى مكتب يدير من داخله أعماله. في الطابق الثاني، الفتاة المتبناة مارغو تينينباوم ستصبح كاتبة مسرحية وحينما تبلغ الصف التاسع ستفوز بمنحة "بريفرمان" بقيمة مالية تبلغ 50 ألف دولار. أما الطفل الثالث ريتشي تينينباوم فقد صار بطلاً في التنس منذ الصفّ الثالث وحينما بلغ السابعة عشرة من عمره أصبح لاعبًا محترفًا وفاز ببطولة الولايات المتّحدة المفتوحة ثلاث مرات. بعد استعراض شخصيات الأطفال الثلاثة ونجاح كلٍ منهم، وقبل أن ندخل إلى الفيلم، سيكمل صوت المعلّق الخارجي بالقول: «كل ذكرى لألق نجاح حقّقه الأطفال تينينباوم ستُمحى خلال عقدين من الفشل والخيانة والكوارث». سيبدأ الفيلم من جديد بعد نهاية المقدّمة الطويلة، لنجد الأطفال الصغار قد كبروا وصاروا في بداية الثلاثين من عمرهم، وكل واحد منهم له أزمته الوجودية الخاصة. تشاز تينينباوم (بين ستيلر) فقد زوجته في حادث تحطّم طائرة نجى منه هو وأبناؤه، مارغو تينينباوم (غوينيث بالترو) تحوّلت إلى مكتئبة تزوّجت رجلًا يكبرها بعشرين عامًا تقريبًا، وريتشي تينينباوم (لوك ويلسون) -بعد مسيرة ناجحة في ملاعب الكرة الصفراء- خسر نهائي ويمبلدون بفضيحة أنهت مسيرته، وصار يجوب بحار العالم هربًا من ذاته.

هنا نعود إلى سلطة العائلة، يجادل أندرسون في الفيلم أن الأبناء وقعوا تحت مطرقة سلطة غياب الأب التّام عن المشهد وسندان سلطة الأم التي تعاملت مع أبنائها كمشروع لتثبت نجاحها بصفتها أمًا عازبة، والنتائج الكارثية التي سيظل الأبناء يعانون منها بعد تبدّد نجاح البدايات هي حصاد هذه اللعبة. حياتهم وهم بالغون سيكون أساسها هو الصراع مع هذه السلطة ومقاومتها ومن ثمّ محاولة تدميرها بشكل كامل وإعادة بنائها حسب تصوّر جديد سيجد فيه الأبناء مساحة تخصهم.

بعد صدور الفيلم بأسابيع في العام 2001 كتب الناقد أنتوني لين مقالة بعنوان "العلاقات الدمويّة" تناول فيها الفيلم، افتتحها باستعارة جملة ليو تولستوي الخالدة التي استهلّ بها رواية "آنّا كارنينا"، ولكن مع تعديل طفيف: «كل العائلات السعيدة مثاليّة، أما كلّ العائلات المعطوبة فلها أعطابها الخاصة، حتّى وإن ظنّ أفرادها أن كل شيء يسير بطريقة مثالية. محظوظ تولستوي أنه لم يعِش ليشاهد فيلم "The Royal Tenenbaums"، لأنه كُتب ليتضاد مع كل النظريات الاجتماعية للتناغم العائلي. إذا وُلدت آنّا كارنينا في منزل تينينباوم لكان مصيرها أن تدخّن السجائر وتسمع موسيقى رولينغ ستون».

الغضب المتواري والرغبة في التدمير هما ما يحركان أبناء تينينباوم: الغضب من العائلة والأبوين والحياة عمومًا، ومن ثمّ الرغبة في تدمير العائلة أو التدمير الذاتي الشامل. وهذا يظهر بوضوح في أسلوب الحياة العدمي الذي اتبعته مارغو، مع إدمانها للتدخين بشراهة وحبس نفسها في الحمام لأيام، ومن ثمّ هجرها لزوجها الذي لم تكن تحبّه.

كذلك ريتشي الذي تولّدت في قلبه مشاعر حبّ مريضة تجاه أخته المتبناة يعود أصل نشأتها إلى تعاطفه معها منذ الطفولة بسبب القسوة التي لاقتها من والدها، سيحاول المقاومة، سيتصارع مع الآثار التي نتجت عن كل ما عايشه في طفولته، لكنّ قلبه المرهف سيكون أكثر ضغفًا من هذا، وسيتخذ قرارًا بأن وقت الموت قد حان. مشاعره هي أقرب ما يكون إلى سفاح القربى، وما عاد قادرًا على التخلّص منها أو ترويضها، في وقت يميل فيه تجاه والده بالرغم من وعيه بما تسبب فيه.

أما الأخ الأكبر تشاز فإنه سيعاني الأمرّين من عائلته المكوّنة من أبويه اللذين يكنّ تجاههما مشاعر عنيفة، ومن مسؤولياته تجاه أبنائه الذين صار واجبه تجاههم أكبر بعد وفاة أمهم.

سلطة العائلة دمّرت الثلاثة بشكلٍ كاملٍ، حوّلتهم إلى كائنات كاملة العطب، إنقاذهم لأنفسهم من هذا المأزق مهمّة شبه مستحيلة. يقول ريتشارد برودي -الناقد السينمائي- في تشريح هذه الرؤية عند ويس أندرسون: «بالنسبة إليه، يجب التعبير عن هذه المشاعر، تحويلها ونقلها، إيقاظ الغضب وإعادة إحيائه وزيدة وعي الناس تجاه غضبهم المستتر ووضعه في إطاار الفعل، دون أن يؤذوا أنفسهم أو الآخرين من حولهم. هذه المشاعر هي المحرك الأول للجمال والحب، وهي ما يصهر الطاقة الإنسانية لبناء شكل جديد للحياة».

بعد غياب 22 عامًا سيقرر الأب أن يعود ليظهر في المشهد من خلال استعطاف رخيص للأم وتزوير لمرض يشي بقرب موته. هذا المشهد كان إمعانًا في تشويه صورة الأب الأناني الذي لم يتذكّر عائلته ولم يرغب بالعودة ليكون عضوًا فيها إلّا بعد أن أفلس وطُرد من الفندق الذي كان يسكنه.

في ذات السياق، نستذكر أدبيات الطبيب النفسي الألماني فيلهلم رايش وأفكاره حول العائلة المستبدة التي تؤدي إلى طمس وجود وشخصيات أبنائها بشكل لاواعٍ، فيصيرون كائنات بلا كيان حقيقي، أشبه بالمسخ، يسهل على كل عناصر العالم الخارجي المحيط أن تتلاعب بهم كيفما شاءت. سيمضي الفيلم في رحلته لإظهار الأعطاب النفسية العميقة التي لحقت بالأبناء ودائمًا السبب يعود إلى الأصل؛ في كل زاوية منه ستكون ملامح هجاء العائلة وسلطتها واضحة. كل شيء يعطي تصوّرًا جليًا عن أفكار أندرسون تجاه العائلة. الحل يكمن في التدمير والهدم ومن ثمّ إعادة البناء من جديد وفق رؤيا تصهر فيها التصورات الفردية للأبناء. الرغبة في التدمير ليست ناشئة من الحقد، بل أساسها هو رغبة في تعديل المسار الذي لا يتسق مع شخصية أيِ من الأبناء بشكل مطلق. إن الموت حتمّي إن لم يلجأ الأبناء إلى قتل عائلتهم وإحيائها بأسلوب جديد ومختلف، يتقبّل كل فرد كما هو، دون أن تكون على أي واحدٍ منهم التزامات كبرى.

كل هذه التفاصيل المأسوية مع الصراع العميق الذي توثّقه قصة الفيلم يصوغه ويس أندرسون في إطار كوميدي هزلي مع اهتمام مبالغ فيه –إلى حد ما- بالجوانب الجمالية والفنّية. إنه يريد قول شيء ما من خلال هذا المزيج الغريب الذي يحتمل كل هذه العناصر المتضادة والمتنافرة بشكل واضح. الألم والحزن والمأساة في القصّة يعبّرون عن الملهاة الإنسانية، وتقديمهم في هذا الإطار دلالة على أنهم لا يحوزون ذلك القدر من الأهمية، وفي ذات الوقت الإطار الجمالي المعتنى به هو تأكيد على رغبة الإنكار القوية التي يعتنقها الإنسان في مواجهة كل ما يعتريه، ولا أستطيع الجزم هنا، هل كان هذا اتجاهًا واعيًا اختاره أندرسون لتصوير الإنكار؟ أم أنه هو ذاته يعاني الإنكار ويحاول أن يبرهن عليه من خلال أفلامه؟ سؤال مفتوح على مصراعيه دون أن تكون له إجابة شافية.

النهاية تبدو سعيدة من الخارج، فالأبناء يتمكّنون من العودة إلى حضن عائلة جديدة ساهموا بقوة في إعادة بنائها بعد أن هدموا كيانها القديم. أما في الجوهر، فالسعادة لا تهم كثيرًا؛ هي مجرد مشهد ختامي، والأهم منه هو الاحتفاء برؤى التدمير وإعادة البناء. حتى عند استقراء هذا النموذج الجديد الذي صارت إليه العائلة، سنجده نموذجًا مليئًا بالإشكالات والعيوب التي قد تنتج أعطابًا جديدة، ما يؤكد على أن القيمة الأهم في رؤية أندرسون تتشابه كثيرًا مع ما ذهب إليه سيغموند فرويد في أن التحليل النفسي والقدرة على الإصلاح التي قد تنشأ عنه لا يكمن خلفها هدف في بلوغ السعادة، وإنما في جعل الحياة محتملة وتجاوز المخاوف والاكتئاب والهلاوس ومن ثم تحويل البؤس الشديد إلى عادي. التجربة الإنسانية في فيلم "The Royal Tenenbaums" هي حكاية الأعطاب النفسية والدمار الذي تخلفه السلطة الاجتماعية للعائلة على أعضائها وتفاعلهم مع هذه النتائج التي وجدوا أنفسهم في خضمها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

أ. قيس عبداللطيف
March 9, 2024
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا