فيلم «المصير» وتداعيات جِراح الشّخصية العربية
محمد مصطفى
Maha Sultan

«علّي صوتك بالغُنا، لسه الأغاني ممكنة»

ما إن يستعر التطرف الديني في أحد بُلداننا العربية، حتى تصدح الحناجر بهذه الكلمات التي غنّاها محمد منير في فيلم «المصير»، ثم ما لبثت أن أصبحت رمزًا في هذه المعركة طويلة الأمد ضد قوى التطرف الظلامية. 

يُمثل فيلم «المصير» محطة بارزة في هذه الطريق الوعرة التي حاول المثقفون العرب على مدى أجيال تمهيدها. أخرج يوسف شاهين «المصير» في نهاية تسعينيات القرن الماضي، بعد مسيرة طويلة امتدت لخمسين عامًا، ومشروعًا سينمائيًا يعدّه جميع النقاد من بين الأبرز عربيًا. ولم تكن هذه المرة الأولى التي يغامر فيها شاهين بالإقدام على مشروع تاريخي طموح في مسيرته، حيث قدّم قبله أفلامًا تاريخية عدة مثل: «وداعًا بونابرت» في الثمانينيات، «المهاجر» في مطلع التسعينيات، وأبرز هذه الأعمال «الناصر صلاح الدين» في مطلع الستينيات. ولكن ورغم الفارق الزمني الذي يصل إلى نحو خمسة وثلاثين عامًا بين «الناصر» و«المصير»، لم يتعلم شاهين الدرس. أقول هذا من موقع المُحب للمخرج غير الهيّاب، الذي أرى أن في كثير من الانتقادات المتكررة الموجهة إليه تجنّيًا سافِرًا، وأدافع عنه دائمًا. أقول هذا كذلك وأنا أعي بأن مشكلة فيلم «المصير» أو إشكالية «كيف نتعامل مع التاريخ؟» أو بالأحرى «كيف نقرأ التراث ونستلهمه؟» تقع في صميم أزمة الثقافة العربية المعاصرة.

أزمة الثقافة العربية المعاصرة

إبان القرن التاسع عشر، وتحديدًا نصفه الثاني، وجد العرب أنفسهم مُلقَون في أُوار الحداثة الغربية دون سابق إنذار، ودون أي اعتبار أو اعتراف يليق بحضارتهم الممتدة لأكثر من ألف عام. وجد العرب أنفسهم مجبرين على الانتقال القسري من العصور الوسطى إلى عصر الحداثة، بشكل لا يتناسب مع وعيهم الخاص إزاء وجودهم التاريخي وإزاء الزمن. ومع ذلك، وإن حدث هذا الانتقال العنيف، فلن يصبحوا حداثيين، أو على الأقل لن ينتموا عضويًا إلى تلك الحداثة. محكوم عليهم بالمعاصرة من اللحظة الأولى، فهم لم يشاركوا في إنجاز أيٍّ من الثورات العلمية أو الميتافيزيقية أو السياسية التي صاغت وشكَّلت مفهوم الحداثة. وكما كان على العرب مقاومة الاحتلال الغربي المُتبجِح بذريعة الاستعمار، كان عليهم أيضًا مواجهة الحداثة الغربية بكل ما تحمله من عنف تأويلي، وأعني بالمواجهة هنا محاولة إدراك العصر وموقع أنفسهم الجديدة منه1.

خلَّف هذا الإدراك العيانيّ بالمركزية الغربية في أفق النفس العربية جرحًا نرجسيًا ذا طبيعة أنثروبولوجية2، وهو المفهوم الذي صكَّه الراحل العظيم جورج طرابيشي، بوصفه مستوى رابع يُضاف إلى المستويات الثلاثة الأولى التي حددها فرويد للجرح النرجسي الكوني. هذا الجرح الأنثروبولوجي الخاص بالإنسان غير الغربي، وفي حالتنا هذه الإنسان العربي، يوضحه طرابيشي: «كوبرنيكه بالأحرى هو الغرب عينه: فقد اكتشف نفسه متأخرًا في مرآة الغرب المتقدم»3. فكما صدم كوبرنيكوس 4 الغرب باكتشافاته التي أزاحت الأرض عن مركزيتها الكونية وأوضحت أنها مجرد تابع للشمس تدور حولها، صُدمت «خير أمةٍ أُخرجت للناس» أنها لم تعد في المركز، بل باتت تدور في فلك الغرب.

جاءت المحاولة الأولى لتضميد هذا الجرح النرجسي العربي في شكل الأيديولوجيات الثورية التي تسيّدت المشهد السياسي غَداة الاستقلال، تحت لواء القومية العربية باسم الأمة. وفي هذا السياق أُنتج فيلم «الناصر صلاح الدين»، ليبثَّ في الصدور والأذهان فكرة الزعيم العروبي المُخلِّص. بيد أن عماءة حالة القومية العربية وتحميل الفيلم بأعباء مُسبقَة، قد أخلّ بعلميّة التعاطي مع المادة التاريخية، وأضرّ بالدقة التاريخية في تناول الأحداث والشخصيات. وللمفارقة الساخرة تأتي إشاعة «ساعة الكومبارس» التي حرمت الفيلم من الترشح للأوسكار، وللمفارقة المؤلمة لم يتعلم شاهين الدرس، وهو مَن عوّدنا على النقد الذاتي الجارح، ليكرر الخطأ لاحقًا في مسيرته.

النضال الفكري في ساحة التراث

ورث العرب عن الفكر الأوروبي مشكلة تأويل التراث باعتبارها اللبنة الأولى في مسيرة تحقيق الذات المعاصرة، وأعلنت هزيمة يونيو 1967 بداية نهاية القومية العربية. من هنا انتقل الصراع الأيديولوجي بكليته إلى ساحة التراث، ومن هنا انبثق السؤال الهاجس: «كيف نقرأ التراث؟ كيف نتعامل معه؟ كيف نؤوّله؟». عدا أن الأزمة لا تكمن في تشخيص السؤال، وإنما تكمن في أن القراءات العربية للتراث غالبًا ما كانت تأتي في شكل متواليات متورطة سلفًا في ثوب الأيدولوجية الصماء، يدفعها الانتماء الهوويّ إلى الانتقاء والتشريح، فيما أطلق عليه جورج طرابيشي «مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة»، والذي أقتبس منه: «فإن اللحظة الطاغية في التعاطي مع هذا التراث تبقى هي اللحظة الأيديولوجية بكل مسبقاتها وتحيزاتها وإسقاطاتها ومسكوتاتها وعماءاتها، مثلما تبقى اللحظة الغائبة أو الواهنة الحضور هي اللحظة المعرفية، بأداتها التي هي التحليل العلمي الموضوعي، وبغايتها التي هي الحقيقة التاريخية»5. وفي سياق هذه المذبحة، وعملية الشد والجذب بين الرؤى المتباينة، والنضال الفكري على أرضية التراث، يمكن فهم ورؤية مكامن العيوب في فيلم «المصير».

مناقشة الفيلم

لا أحد يشكك في نوايا الفيلم الحَسنة، وأنه جاء من شاهين ردًا على موجة التطرف الديني التي ضربت أطنابها في مصر في الثمانينيات والتسعينيات، لتبلغ ذروتها في اغتيال فرج فودة ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ. لا أحد كذلك ينكر جودة الفيلم الفنية، خصوصًا على المستوى البصري، وهو الأمر الذي لطالما ميّز شاهين حتى عن مُجايليه من الرعيل الرائد من المخرجين، مقارنة بجداريات صلاح أبو سيف على سبيل المثال. وقع الاختيار على مواقع التصوير في سوريا ولبنان مثل: المسجد الأموي في دمشق، وقلعة الحصن في حمص، وجبال لبنان الخلابة، بسبب التقارب مع الطابع المعماري الأندلسي. بلغ نضج شاهين على المستوى البصري قمته في «المصير»، ونجحت كاميراه الرشيقة دومًا واعتناؤه الحثيث بالتكوينات والتأطير لإضفاء عمق بصري على الصورة، في إخراج لقطات مؤثرة علقت في الأذهان، مثل لقطة نهاية الفيلم التي يلقي فيها نور الشريف بالكتب في المحرقة، وهو يواجه الجموع المشاهِدة بنظرة متحدية، ثم يكتب شاهين على الشاشة بتوقيعه: «الأفكار لها أجنحة، ماحدش يقدر يمنعها توصل للناس». ولكن أليس الأَولى أن نعرض هذه الأفكار أولاً؟ فالفيلم كما انتقده معظم المؤرخين لم يلامس شخص الوليد بن رشد الحقيقي، ولم يستثمر الجهد الكافي في محاولة تقريب فكره إلى المُشاهد، حتى لَيتساءل كثيرون ممن يعلمون مكانة ابن رشد وقيمته الفكرية: علامَ كانت وتكون هذه المكانة إذا كان ما قدّمه الفيلم هو حقًا ابن رشد؟! أليس الأجدى أن نقدم الشخصيات التاريخية بموضوعية حتى نُفيد منها؟ الفيلم أفرغ ابن رشد تمامًا من هالته الفكرية ليقدّمه سياسيًا أكثر منه فيلسوفًا، بل وللطرافة يقدمه جرّاحًا داخل الأحداث. لا يختلف النُقّاد على أن من حق المبدع أن يُبحر بخياله في سماء التاريخ، ولكن بشرط ألا يتجنّى المبدع على التاريخ ويعبث بحقائقه. لك كامل الحرية في إطلاق العنان لخيالك ما دام مُلجَمًا بحقائق التاريخ، لكن شاهين صنع ابن رشد متخيلاً بالكامل.

يُستحَبُّ أيضًا أن يملك الفنان وجهة نظر عندما يقرر أن يتصدى لحكاية واقعة أو شخصية تاريخية، بمعنى أن يمتلك الفنان وجهة نظر تبرر اختياره لهذه الواقعة أو هذه الشخصية بالتحديد، وهو بالمناسبة الأمر الذي يعيبه كثيرٌ من النقاد في واحد من أكبر أفلام السنة: «نابليون». ورغم أنه قد يظهر أن شاهين يمتلك وجهة نظر بالفعل: الاستنارة في مواجهة التطرف، فإنها وجهة نظر غير ناجمة عن تعمق في التحليل العلمي لحياة وشخص ابن رشد، بالأحرى وجهة نظر غير مخلصة للتاريخ. استعاض شاهين عن وجهة النظر التي تمكننا من رؤية ابن رشد حسبما يقرؤه ويفهمه، بإزاحة التاريخ وإسقاط الحاضر عليه.

«كل ما نستطيع أن نؤرّخ له، يمكننا أن نتحرّر منه»6

يبدو أنه من الأسهل معاملة ظاهرة التطرف بتعالٍ ثقافيّ عبر قولبتها وتنميطها، دون أن ننظر ونبحث في الأسباب الحقيقية لانبعاثها من جديد كلما اعتقدنا أنها دُفنت في تربة المجتمع بلا قيامة، لتعود إلينا مرة أخرى في ثوب أخطر وأكثر تلونًا لتلعب دورًا بنيويًا في تصور المجتمعات عن مستقبلها، وهو ما حدث عقب ثورات الربيع العربي. كتب ابن رشد ذات نصٍ: «الجهل يقود إلى الخوف، الخوف يقود إلى الكراهية، والكراهية تقود إلى العنف. هذه هي المعادلة». لكن شاهين لم يتناول هذا ولم يستثمر الوقت الكافي في توضيح السبب وراء استشراء هذا المرض العُضال في المجتمع، بل آثر موقفه الانفعالي تجاه الأحداث لينتج لنا فصلاً جديدًا في متوالية (المثقفون ضد التطرف). نبتة التطرف والعنف جذرها التجهيل المتعمد، وإهمال مجتمعات بعينها على حساب أخرى، وهو الحال بالنسبة إلى صعيد مصر الذي كان معقلاً لموجة التطرف تلك. إن أردنا حقًا أن نتخلص من ظاهرة التطرف، يجب أن نضع أيدينا على أسبابها الحقيقية. يجب أن نؤرخ لها بدقة وبأدوات علميّة تكشف مسوغاتها السوسيولوجية، لا من خلال ثنائيات أثبتت فشلها على مدى أجيال متعاقبة. حينئذٍ وفقط حينئذٍ يمكننا أن نتحرر منها، لا بمعنى أنها ستندثر تمامًا، ولكن سيتحرر العقل العربي من أغلالها، وسينعتق من الدوران في فلك الجدليّة البالية: جدلية المثقفين والتطرف. يجب أن نتعلم من «المصير» حتى لا نؤول إلى المصير نفسه.


الهوامش

  1. «الفلسفة العربية المعاصرة: تحولات الخطاب من الجمود التاريخي إلى مآزق الثقافة والإيديولوجيا» لمجموعة من المؤلفين، وتصدير د/ فتحي المسكيني.
  2. مفهوم صكَّه الكاتب السوري العظيم جروج طرابيشي في كتابه «المثقفون العرب والتراث: التحليل النفسي لعصاب جماعي».
  3. «من النهضة إلى الردة: تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة» لجورج طرابيشي.
  4. نيكولاس كوبرنيكوس: فلكيّ بولنديّ يُعدُّ أول من صاغ نظرية مركزية الشمس، ودوران الأرض حولها بوصفها تابعًا لها.
  5. «مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة» لجورج طرابيشي.
  6. اقتباسٌ من إحدى محاضرات د/ فتحي المسكيني.
اقرأ أيضاً
النقد

لا لا لاند: في بناء وانتهاك الهارموني

يسهل ربط الشعر بالموسيقى، إذ إننا حينما نتحدث عن الموسيقى في القصيدة العمودية مثلاً، فإننا نتحدث عن إيقاعات بحور الشعر التي وضعها الخليل، وهي التي تقوم على تفعيلات في جوهرها

الأخبار

وفاة أنجيلا لانسبيري

رحلت عن عالمنا نجمة السينما والمسرح، وبطلة المسلسل الشهير “هي، من كتبت الجريمة”؛ “أنجيلا لانسبيري” (Angela Lansbury) عن عمر ناهز ست وتسعين عامًا. الممثلة الكبيرة التي استحوذت على أنظار هوليوود

النقد

جيفري دامر: طفولةٌ فَزِعة تخرجُ من وكرها

ما من مثيرٍ للعجب أن يتصدر عمل مثل «جيفري دامر» قائمة الأعمال الأكثر رواجًا وإقبالاً للجماهير، والذي تختار نيتفليكس إصداره في شهر أكتوبر، شهر الهالوين، بهذا الوجه المهيب والغلاف الذي

Register

Register

Register

Register