(4): هدم العائلة وإعادة بنائها على طريقة ويس أندرسون (قمر طفولةٍ خسيف)
قيس عبداللطيف
Maha Sultan

«يا إلهي، عندما تبرد المرُوج، وفي القُرى المنكوبةِ عندما تموتُ الملائكة الخالِدة… على الطبيعةِ العاريةِ من الزَّهر، دعِ الغِربَان العَزيزة الرائعة تهوي من سماواتك الفساح».

آرثر رامبو/ قصيدة الغِربان

في فبراير من العام 1935 نشرت صحيفة نيويوركر ملاحظة مقتبسة من نصّ إعلان لشركة السيارات جنرال موتورز، جاء فيها: «سيارة الموت، سيارة كلايد بارو-بوني باركر، معروضة الآن في صالة شركة طومسون شيفروليه، في مدينة سيداليا بولاية ميزوري، وأنتم مدعوون لمشاهدتها». في حالة سُعار رأسمالي، كانت جنرال موتورز تصطاد في الماء العَكِر مستغلة الصدفة التي جاءتها على طبقٍ ذهبي. كلايد بارو وبوني باركر صاحبا أشهر حكاية حبٍ ممتزج بالجريمة في القرن العشرين، قتلتهُما الشرطة بعد مطاردة كانا يستقلّان فيها سيارة شيفروليه.

بوني وكلايد لم يعرف أيٌ منهما الحبّ في طفولته أو مراهقته، عاش كِلاهما حياة صعبة ومليئة بالتعقيدات النفسية، وقبل أن يكتشفا العالم صدمهما قطار الكساد الكبير فوجدا أنهما على حافة الجوع. كان لقاؤهما هو أوّل لقاء بالحب، حبّ سيخلطانه سريعًا بالجريمة، حيث سيكونانِ معًا عصابةً للسطو المسلّح، تُغير على المحلات التجاريّة والبنوك، ولن يمر كثير من الوقت حتّى يصبحا المجرمَين الأعلى طلبًا عند مكتب التحقيقات الفيدرالي، وقبل أن يكمل أيٌ منهما عامه الخامس والعشرين في الحياة، ستُنهي الشرطة مغامراتهما وتحوّلها إلى أسطورة تتناقلها الألسن إلى يومنا هذا بعد مضي 90 عامًا. بوني وكلايد كانت جرائمهما تتسم بالوحشية، وكل من يقف أمامهما كان يُقتل برصاصات الأسلحة الرشاشة، راح ضحية عملياتهما رجال شرطة، موظفو بنوك، مارّة في الشوارع. لم تكن تساور أيًّا منهما الشكوك قبل الضرب على الزناد، كانا يقتلان بدمّ بارد وبلا أدنى رحمة، وكل هذا كان نتاج الأزمات النّفسية التي حملاها من الطفولة.

في بحر البراءة الإنساني ذاك، يتمّ تشكيل الوحوش الأكثر ضراوة، وفيه كذلك يصبح النّاس ما هم عليه حينما يكبرون. ربما سنصل إلى هذه النتيجة بتتبع نظريات سيغموند فرويد، ويمكننا الوصول إليها من خلال نظريات علم النّفس الأكثر حداثة. ما يُكتب على صفحات الطفولة البيضاء لا يُمحى، وإن لم تحفظه الذاكرة سيحفظه اللاوعي، وما يُدفن تحت تراب الماضي، سيبقى حيًّا ولن يذوي أبدًا.

بوني وكلايد يُشبهان سوزي وسام، ويُشبهان القصص التي يحبّ أن يحيكها ويس أندرسون، ويمكن أن نرى تقاطعهما مع قصّة فيلم «مملكة صعود القمر» (2012) Moonrise Kingdom واضحًا، غير أن أندرسون الخائف المتردد، لن يكسر الجدار، ولن يجعل شخصياته تبلغ لحظات الجنون الوحشي، فهو ينقذهم قبل ذلك، لكنّه يروي لنا أن كل شيء يمكن أن يسير في ذلك الاتجاه. هنا، مرّة أخرى، سيُعيد أندرسون هدم العائلة ويعيد بناءها من جديد، ولأول مرّة سيلعب على أوتار الطفولة وحدها. في هذا الفيلم سنرى أطفالاً بالغين، وسنرى بالغين أطفالاً، ستصيبنا الدّهشة ونحن نرى لعبة الكراسي الموسيقية تجري أمامنا، وسريعًا سندرك أن عوالم أندرسون السحرية هي عالمنا، وأن شخصياتها العجائبية هي شخصياتنا.

سام وسوزي في رحلة اكتشاف الحبّ:

Moonrise Kingdom (2012)

يعود بنا ويس أندرسون إلى العام 1965 ليصنع عالمًا متخيّلاً في جزيرة نائيةٍ متخيّلة. الشخصيتان الرئيستان في الفيلم هما الطّفلان سام شاكوسكي، عضو فرقة الكشّافة اليتيم الذي يقرر والداه بالتبنّي التخلّي عنه، وسوزي بيشوب، الفتاة الذكيّة متعددة المواهب والتي تعاني الكآبة. يُفتتح الفيلم بالعرض المكاني، كما هي عادة أندرسون. بطريقة تصوير ساحرة، نتعرف إلى بيت عائلة بيشوب، الذي يحمل اسم «نهاية الصّيف» Summer’s End، الواقع في جزيرة بينزانس، كما نتعرف إلى سوزي وأشقائها الصغار الثلاثة، ووالديها، وعاداتهم اليومية. كل شيء تعرضه الكاميرا يشير إلى أن البيت بيئة خصبة يمكن أن تنمو بها السعادة، ولن يمر وقتٌ طويل حتّى نكتشف العكس.

على الجانب الآخر، سام يصل إلى جزيرة نيو بينزانس ليقيم في المعسكر الصيفي للكشّافة. ومجددًا، تقديم شخصيّة سام لا يكون مباشرًا، بل يأخذنا أندرسون في رحلة داخل المعسكر، نرى الإتقان التّام للفرقة الكشفية، والنظام المحكم الذي يسير عليه كل شيء تحت إشراف القائد راندي وارد. بيئة المعسكر كذلك تشي بأنها مكان يمكن أن تنبت على أرضه السعادة.. أطفال يعيشون المغامرات الأولى مع قائد لطيف رغم حزمِه، ولن يطول بنا الأمر حتّى نكتشف العكس.

في كلّ أفلامه تقريبًا يؤكد ويس أندرسون على أنّ السعادة ليست وصفة جاهزة يمكن تحضيرها عند توفّر المقادير، والأمر ليس استثناءً هنا. بمجرّد أن ينتهي العرض المكاني للبيئة التي يعيش فيها أبطال القصّة، تُزال القشرة النحيلة التي كانت تغلّف مقدّمة القصّة، ونعرف أننا أبعد ما نكون عن السّعادة. نلتقي بشخصيّة سام بعد أن عرفنا هروبه من المعسكر على طريقة «الخلاص من شاوشانك» The Shawshank Redemption، مجدّفًا على قارب في حين يحمله التّيار على النّهر، وفي الخلفيّة نسمع أغنية هانك ويليامز «كاو-ليغا» Kaw-Liga:

«المسكين كاو-ليغا، لم يحصل على قبلة قطّ،

مسكينٌ كاو-ليغا، إنه لا يعرف ماذا فاته،

وهل من عجبٍ أنّ وجهه أحمر؟

كاو-ليغا، صاحب الرأس الخشبيّة المسكين».

تنتهي رحلة سام بلقاء سوزي على المرج الأخضر المفتوح، لتبدأ رحلة الهروب الكبير، الرّحلة الثانية. معًا سيُلقيان بكل شيء خلفهما وسيذهبان إلى الغابة. سيتوّجان علاقتهما التي دامت لعامٍ كامل، يبعثان بالرسائل لبعضهما. رسائل عامرة بالحبّ والسّخط، رسائل كانت تصل وإن قطعت أميالاً طويلة، فيما أصواتهما لا تفارق الحنجرة عند الحديث مع كلّ مَن حولهما. سام وسوزي سيعرفان الحبّ للمرّة الأولى في هروبهما، الحبّ الذي لم تجُد الحياة عليهما به.

يؤكد نّص الفيلم أن هروبهما ليس ثورة تافهةً لمراهِقَين لم يعرفا عن الحياة إلّا قليلاً، وإنما هما طفلان شكّلتهما الحياة بطريقتها الخاصّة، ودفعتهما قسرًا كي يبدُوَا بالغَين. والد سوزي يقول عنها: «ليس لديها أيّ أصدقاء، لا أعلم ما الخطأ الذي ارتكبناه لتصبح هكذا»، فيما يقول سام في إحدى رسائله لسوزي: «حاولت جاهدًا كسب الصداقات دون جدوى، إني أشعر بأن النّاس لا يحبون شخصيتي، في الواقع، أفهم سبب عدم محبّتهم لي…»، وهنا تحديدًا يمكننا أن نلمح النّبذ الاجتماعي الذي تعرَض له كلاهما، فلا عائلة ولا أصدقاء، والكراهية تحيط بهما. وفي ظلّ هذه الظروف، وجد كلٌّ منهما الآخر، وأصبح كلٌّ منهما نافذةً للآخر كي يتجاوز السّجن الداخلي الذي وجد نفسه محاصرًا فيه ولأعوام.

سام وسوزي مضّطربان نفسيًا. القصّة تطرح مسألة اضطرابهما بوضوح. يبدأ الأمر بالنظّرة الخارجية التي يطالعهما بها العالم، والدة سوزي تقتني كتابًا اسمه «التعامل مع الطّفل شديد الاضطراب» كي يساعدها في فهم ابنتها، معلّماتها في المدرسة يشاركن الأم ذات التصوّر، أما سام فكلّ رفاقه في المعسكر مجمعون على أنّه مضطّرب، والداه بالتّبني يرونه بالنّظرة نفسها. وداخليًا أصبحت لهما قناعة أنهما مضطّربان، سوزي توصّف نفسها بأنّها مكتئبة، وهي كذلك، ويلعب أندرسون على هذا الوتر حينما يقدّمها في المسرحية الأوبرالية بشخصية الغراب، أما سام فهو الآخر لا ينفي عن نفسه الاضطراب النّفسي وإن كان يتحرّج منه، بعكس سوزي التي أوصلها سخطها لدرجة مواجهة العالم بحقيقتها دون أي تجميل.

غير أن السؤال الذي يتنامى إلى الذّهن الآن، ما السّبب في هذا الاضطراب الذي يعاني منه كلاهما؟ أندرسون يقدّمه بوضوح: العائلة والمجتمع. اختلاف هذين الطّفلين عن كل المحيطين بهما، يصنع حالة النّبذ الاجتماعي والرّمي بتهمة الاضطراب، فالاختلاف مرفوض، وأي خروج فردي عن الجماعة يُعدّ انتهاكًا يجب أن يعاقَب صاحبه عليه، ولا يكون العقاب واعيًا، بل هو ممارسة غير واعية يمارسها الجميع على الطّفلين. ومع شعورهما بالنّبذ يزداد منسوب السّخط داخلهما، وكلٌّ منهما يتقوقع على نفسه أكثر، وفي علاقة طردية، تصبح أفعالهما أكثر اختلافًا عن المحيط، فيتنامى النّبذ أكثر ويزيد السخط أكثر وأكثر.

يضع أندرسون العائلة بوصفها متهمًٍا أوّل في هذه المحاكمة، فسواء كانت العائلة حاضرة بنموذج فاشل في حالة سوزي أو كانت غائبة تمامًا في حالة سام، ستكون النّتيجة واحدة. الطّفلان سئِما من الحياة التي يعيشانها وقررا الهرب معًا، لماذا؟ هنا نتوقف قليلاً ونستعيد التعريف الأكثر بداهةً للحبّ، أن تخلع قناعك وتظهر عيوبك حتّى البشِع منها وتجد القبول والعطف. سام وسوزي تعرّى كلٌّ منهما أمام الآخر، ولم تكن عيوبهما إلّا سببًا يجعلهما أكثر قربًا. في المشهد الأكثر رومانسية في الفيلم، سام -وبكثير من الحرج- يعترف لسوزي قبل النّوم على فراشٍ واحد: «لربما أتبوّل ليلاً أثناء النّوم! أرجو ألّا تفهمي هذا الأمر في حال حدوثه كإهانة لك»، وهنا تُظهر له سوزي حبّها وتتقبّله، وتشعر أن اعترافه هذا جعله أكثر قربًا منها.

لعبة كراسٍ موسيقية – عندما أصبح البالغون أطفالاً:

في ثنايا قصّة هذا الفيلم التي حاكها ويس أندرسون بالتّعاون مع رومان كوبولا، تمت صناعة لعبة كراسٍ موسيقية تناوب فيها البالغون والأطفال على تبادل الأدوار. يبدأ الأمر من التوظيف الذّكي للكشّافة، وهي النّشاط الذي يتحوّل فيه الأطفال الصغار إلى بالغين يقومون بأدوار الكبار وتُلقى على عاتقهم مسؤولياتٌ تتجاوز سنّهم. سام شاكوسكي، عضو الكشّافة، ليس طفلاً يبلغ من العمر 12 عامًا وحسب، نلمح هذا في تصرّفاته وسمات شخصيته، بل حتى في الغليون الذي يدخّنه باستمرار. سوزي هي الأخرى لا تتصرّف كما لو كانت طفلة مراهقة، وإنما هي متجاوزة لعمرها، ويظهر هذا من الملامح الأكثر بساطة كطريقتها في الكلام، إلى النّضج العاطفي في إدارة علاقتها بسام.

تبادل الأدوار لا يقف هنا، وإنما نرى شخصيات البالغين في الفيلم أقرب ما تكون إلى الطفولة. والدا سوزي، والت ولورا بيشوب، يعيشان حالة من الحيرة والضياع، زواجهما انتهى فعليًّا، لكنّهما يحاولان الإبقاء عليه من أجل أطفالهما، فيما السيّدة بيشوب تعيش علاقة خيانة زوجية كاملة الأركان بوصفها مهربًا من الواقع الذي وجدت نفسها فيه، والسيّد بيشوب حينما تشتد الضغوطات عليه، سيحمل فأسه وشرابه وسيلقي بنفسه على أرض حديقة المنزل، لينفّس عن غضبه دون أن يجد دليلاً في متاهته.

قائد الكشّافة وارد هو الآخر ليس استثناءً، فالبرغم من المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتقه، نراه في مَشاهد كثيرة يتعامل كطفل، دون أن يعرف طريقة للتصرّف، وفي حواره مع سام على القارب يصعب علينا التفريق بين الطّفل والبالغ، ويعيش شرطيّ الجزيرة كابتن شارب حالة مشابهة، ويصرح بهذا علنًّا للطّفل سام في جلستهما معًا على طاولة العشاء، عندما يقول: «أنت لا تقل ذكاءً عنّي، في الواقع لا، أرى أنك أكثر ذكاءً وفهمًا منّي».

يتلاعب ويس أندرسون بالخيط الرّفيع الفاصل بين الطفولة والبلوغ، ويضعنا في مواجهة أنفسنا لنسأل السؤال ذاته، كيف عبرنا من الطّفولة إلى البلوغ؟ وهل عبرنا حقًّا؟ أم ما زال الطّفل يعيش داخلنا، وفي حالاتٍ معينة نراه يخرج معلنًا عن وجوده بوضوح!

هذا الصراع بين الطّفولة والبلوغ هو أحد جذور المعضلة التي يقدّمها الفيلم. لقد وجد الطفلان الصغيران سام وسوزي أنهما يعيشان تحت ظلّ سلطة أطفالٍ كِبار، لا يدركون المسؤولية الكبرى التي عليهم أن يؤدوها، الأمر الذي يدفعهم إلى ارتكاب الأخطاء الجسيمة الواحد تلو الآخر، وفي النّهاية تزيد المشكلات تعقيدًا في تطوّر منطقي. وهنا، يكون لزامًا على الطفلين سام وسوزي، وكذلك أعضاء فرقة الكشّافة، أن يخلعوا رداء الطفولة ليقوموا بالدّور الذي فشل الكبار في تأديته. لم يكن هذا خيارًا، بل كان حتميّة فُرضت عليهم، فهم لا يمكن أن يبقوا أطفالاً ليكابدوا المعاناة إلى الأبد، كان لزامًا عليهم أن يثوروا ويغيّروا واقعهم، بالهروب الذّي تقف خلفه أمنيات بناء الواقع الجديد.

في نهاية الفيلم، سنرى انتصار الرؤية الجديدة على الواقع القديم الذي أزاحه الأطفال بثورتهم، ومرّة أخرى سيهدم أندرسون العائلة ويعيد بناءها وفق نظرته الخاصّة، بتشكيل عائلة جديدة، القيمة العليا فيها تكون للحريّة، وقبول التّفرّد. سام وسوزي سيفرضان اختلافهما على الجميع، ولن يعترض أحدٌ عليهما في واقعهما الجديد. التقاطع بين الشخصيتين الرئيستين وشخصيّة أندرسون الواقعية كبير، ومَن يتأمل سيرته سيرى التشابه جليًّا، ومجددًا يحيلنا إلى الفكرة الرئيسة، أن أفلامه تشبهه، وأنها، بشكل أو بآخر، سردٌ فريد لسيرته الذّاتية، وعرض لتصوّره عن الحياة وما يجب أن تكون عليه.

طوفان نوح – البداية الجديدة للخير:

يهتمّ ويس أندرسون كثيرًا بالموسيقى وتوظيفها، وهي مكوّن سينمائي أصيل في كلّ أفلامه، غير أنه في «مملكة صعود القمر» يأخذ الموسيقى إلى أبعاد جديدة ومختلفة، أكثر تعقيدًا، لتصبح جزءًا من نسيج القصّة التي يرويها.

سام وسوزي يلتقيان للمرّة الأولى في عرض المسرحيّة الأوبراليّة «طوفان نوح»، ويقعان بطريقة رومانسية -ليست مبتذلة على الإطلاق- في الحبّ من النّظرة الأولى في كواليس المسرح، تحديدًا في غرفة تغيير الملابس، حينما كانت سوزي ترتدي زيّ شخصيّة الغُراب، وسام بزيّه الكشفي، عاري الرّأس.

لقد وضع أندرسون أوبرا «طوفان نوح» التي كتبها الموسيقي الإنجليزي بينجامين بريتن وأُدّيت للمرّة الأولى سنة 1958، في قلب القصّة، وقد قال هذا صراحةً على هامش عرض الفيلم في مهرجان «كان»: «أعتقد بأنّ أوبرا بريتن كان لها تأثير كبير على مجمل الفيلم، الذي كان مجهّزًا لاحتوائِها. إن لي ارتباطًا شخصيًا بمسرحيّة “طوفان نوح”، فقد كنّا أنا وأخي بعمر العاشرة حينما حاولنا إعادة تمثيلها في المدرسة. لقد تركت بصمة علي».

ولفهم الاستعارة الكبرى التي عمل عليها أندرسون في الفيلم، علينا تأمّل شخصيّة الراوي (بوب بالابان)، الذّي تمّ تقديمه في الفيلم بصبغة دينيّة واضحة، فهو لا يتحدث عن الجزيرة بطريقة وثائقية فحسب، وإن كان يفعل هذا في بداية الفيلم، فإن نبرته سرعان ما ستتغيّر، ليصير حديثه أشبه ما يكون بنبوءات تبشّر بنهاية عالم الجزيرة النائية مع اقتراب الإعصار الذي سيضربها حسبما تشير توقعات الأرصاد الجويّة. هذا الإعصار ما هو إلّا توظيف واضح لفكرة الطوفان الذي تعرضه المسرحيّة الأوبراليّة، التي في الأصل هي إعادة تجسيد لحكاية طوفان النّبي نوح. سنقف هنا قليلاً، ونطالع الأحداث على الجانب الآخر من القصّة.

سام وسوزي يقومان بثورة شاملة على كل السلطات التي تهيمن على واقعهما: سلطة العائلة ممثّلة في الوالدين، سلطة النّظام الكشفي متمثّلة في المعسكر وقائده، كذلك سلطة الدّولة متمثّلة في مسؤولة الخدمات الاجتماعية التي تريد أخذ سام إلى دار الأيتام. الطّفلان بثورتهما يصيران في مواجهة الجميع، ويريد الكلّ إعادتهما إلى سجن الواقع القديم.

إن كان الطوفان يعني الدّمار، فإنه دمار يضرب الواقع القديم، ويعني بالضرورة لحظة بداية جديدة لواقع جديد. تبدأ علاقة الطفلين عند مسرحيّة الطوفان وتتصاعد بنا الأحداث حتّى يحدث التغيير الشامل بعد حدوث الطوفان متمثّلاً في الإعصار الذي يضرب الجزيرة، والذي بعد انقشاع سُحُبه وشروق الشّمس من جديد، سنرى سام وسوزي قد حققا البداية الجديدة التي كانا يحلمان بها.

لقد أعاد أندرسون كتابة قصّة الطوفان من جديد، واستطاع أن يحوّلها من صراع شديد الوضوح بين الخير والشّر إلى صراع مختلف وفي شكل جديد بين الخير والخير الأكثر سموًا، فحتّى الشخصيات التي يمكن أن نلمس فيها ميلاً للشّر في الفيلم هي في نهاية المطاف تحرّكها دوافع خيّرة. يقول الناقد ريتشارد برودي في مقالة نشرها في عام 2012 تحت عنوان: «ماذا تشاهد نهاية هذا الأسبوع: (مملكة صعود القمر) لمرتين»: «فيلم “مملكة صعود القمر” يطرح سؤالاً كبيرًا: من هم الأخيار؟ أولئك الذين لهم القدرة على الحبّ على نحو حقيقي وجميل، وهم في سبيله على استعداد لمواجهة كل الأخطار بما في ذلك الموت».

أندرسون بين الموجة الفرنسية وعناصر بيرغمان:

عند النّظر بعينٍ سينمائية إلى أفلام ويس أندرسون فإننا نجدها أقرب إلى السينما الأوروبّية منها إلى السينما الأمريكيّة، وملامح التأثر بالسينمائيين الأوروبيين عند أندرسون أكثر من أن تُحصى وتُعدّ، غير أن النجاح الأكبر الذي يجعله مختلفًا عن كل مَن سبقه في هذا الطريق، هو أنه تمكّن من جعل أفلامه رائجة تجاريًّا ويمكن أن يشاهدها الجميع في الولايات المتحدة ويُعجبوا بها. لقد استطاع أن يعطي الفيلم الأمريكي بُعدًا جديدًا من خلال المزج بين أفكار وأساليب سينمائيّة عدّة.

فيلم «مملكة صعود القمر» يُعدّ أكثر أفلامه وضوحًا في تأثره بالسينما الأوروبية، ففيه نجد الأساليب التقنيّة للموجة الفرنسيّة الجديدة، وتحديدًا أفلام جان لوك غودار. استخدم اللقطات السّريعة والقفز بين المَشاهد، والتكبير والتصغير بتكرار في تصميم الإطارات والحركة المستمرّة للكاميرا لتتبُّع الشّخصيات، غير أنه وظفها بطريقته الخاصّة ضمن أسلوبه التناظري (السيمتري)، كذلك في بنية النّص استعار أسلوب الفكاهة الجافّة وغير المباشرة.

على الجانب الآخر نرى إنغمار بيرغمان يطلّ برأسه بجلاء ووضوح عبر عناصر النّص السينمائي للفيلم، فالقصّة برمتها تدور في فلك الموضوعات التي اعتاد بيرغمان طرق أبوابها: السلطة الأبويّة متمثّلة في والدي سوزي، التيه الوجودي والبحث عن الذّات في خضم أمواج الحياة المتلاطمة الذي نراه في شخصيّة سام، والعنصر الأهم هو التوظيف الاجتماعي للدين، وإن كان أندرسون استخدمه بطريقة أقل حدّة. استخدم أندرسون كذلك الرّاوي في الفيلم بالطريقة نفسها التي استخدمه بها بيرغمان في فيلمه «ابتسامة ليلة صيفيّة» (1955) Smiles of a Summer Night.

إن ملامح التأثر السينمائي لأندرسون يصعب ملاحظاتها، حتى مع تصريحه بها في مواقف متعدّدة، فإن الأسلوب الجمالي الذي يغلّف أعماله به يخلق جدارًا سميكًا يمنع تتبُّع آثار الآخرين عليه، وفيلم «مملكة صعود القمر» ليس استثناءً، فبالرّغم من الإشارة إلى أفلام ومخرجين آخرين، فإن السّمة المهيمنة على الفيلم هي سمة النّوع السينمائي الأصيل الذي يُعرف به أندرسون.


اقرأ أيضاً
مقالات

عن الأمومة وأشباحها في السينما

في كتابها «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، طرحت إيمان مرسال تساؤلاتٍ عدة عن صورة الأمومة في المتن العام، وإن كانت هوية المرأة تختفي تدريجيًا وراء انضمامها لكيان الأمومة الموحد، أم

النقد

«رقم هاتف قديم» ومحاولة تأويل الماضي

يظهر التحيز للسينما الشعرية في فيلم «رقم هاتف قديم» للمخرج السعودي علي سعيد، منذ عنوان الفيلم المُستل من اسم قصيدة للشاعر العراقي مظفر النواب، وليس هذا التحيز الوحيد في الفيلم

النقد

البيانو: حكاية أنثويّة صامتة

دخلت جين كامبيون التاريخ عندما أصبحت أوّل امرأة، (وأوّل امرأة في نيوزيلندا) تحصل على السعفة الذهبيّة المرموقة في مهرجان كان السينمائيّ عن فيلمها «البيانو» عام (1993). تدور قصّة كامبيون في

Register

Register

Register

Register