فيلم «الحدود الخضراء» يكشف جانبًا من محنة اللجوء الأوروبي
علاء حسن
Maha Sultan

خلال العقد الماضي أصبحت الهجرة قضية سياسية ملحة، وهي التي تميزت بعبور الأشخاص عبر الحدود الوطنية. برزت قضية اللجوء إلى أوروبا في السنوات الأخيرة بوصفها إحدى المشكلات التي يحاول الاتحاد الأوروبي إيجاد حلول لها، مع وصول ما يزيد عن مليوني لاجئ إلى القارة الأوروبية، معرضين أنفسهم لأقصى درجات الخطر بحثًا عن الأمان، وصار تغيير سياسة الاتحاد الأوروبي أمرًا ضروريًا الآن أكثر من أي وقت مضى، إذ يواجه الاتحاد الأوروبي أكبر أزمة لاجئين منذ الحرب العالمية الثانية بعد حدوث كثير من المآسي وسرد قصص اللاجئين المؤلمة، وبدلاً من معالجة هذه المأساة البشرية، سعى السواد الأعظم من دول الاتحاد الأوروبي لتجنب تحمل أي مسؤولية على الإطلاق بشأن وضع اللاجئين، فضلاً عن محاولات الحكومات لإقامة الجدران والأسوار في طريقهم.

وصارت قصص اللاجئين ومعاناتهم مصدر إلهام ومادة غنية للكتاب والمخرجين في إنتاج الأفلام والأعمال السينمائية التي تخص قضيتهم، وخرجت لنا عديد من الأشرطة السينمائية التي حازت على الإعجاب والجوائز في عديد من المهرجانات العالمية. وقد استوحت هذه الأفلام قصصًا من المعاناة السورية والآثار الكبيرة للحرب والخراب الذي ترك بصمته على أرواحهم وسلوكهم، ومنها فيلم «الحدود الخضراء» (2023) للمخرجة البولندية أغنيسكا هولاند، الذي يفضح جانبًا من تلك الممارسات ضد الباحثين عن الأمان والهاربين من مدن الموت والخراب والقتل العشوائي. يشير عنوان الفيلم إلى الغابات التي تشكل الأرض الحرام بين بيلاروسيا وبولندا.‏  

اللاجئ بين قسوة الطبيعة وشراسة حرس الحدود

الفيلم مقسم إلى خمسة فصول. يتناول الفصل الأول «العائلة»، ومن خلاله نتابع مسار عائلة سورية مؤلّفة من بشير (الممثل السوري جلال الطويل) وزوجته أمينة (داليا ناوس)، وأطفالهما الثلاثة، ووالد بشير (الممثل السوري محمد الراشي)، في الطائرة المُسافرة إلى بيلاروسيا، بهدف التوجّه برًا إلى السويد عبر بولندا. في الطائرة يلتقون بامرأة من أفغانستان تُدعى ليلى (بيهي جاناتي أتاي)، تعمل مدرسة لغة إنجليزية وهي متوجّهة إلى بولندا للإقامة مع شقيقها الذي عمل سابقًا مع الجيش البولندي في كابول. بعد الفرار من بلدة حرستا السورية وقضاء سنوات في مخيم للّاجئين، تهبط العائلة السورية بسلام في بيلاروسيا على أمل العبور إلى بولندا، وفي نهاية المطاف السويد، للحصول على اللجوء.

الحدود الخضراء بين بيلاروسيا وبولندا، وتحديدًا غابة بياوفيجا، يعبر من خلالها المهاجرون الذين يتجنبون طريق البحر الأبيض المتوسط الذي يُفترض أنه أكثر خطورة، ويجربون مسار الدخول البري إلى الاتحاد الأوروبي على أمل الوصول إلى أرض أكثر أمانًا. بعد رحلة مريحة من تركيا يُحشرون في سيارة نقل من المطار. تبدأ المتاعب حين يتوقف السائق في بقعة نائية قرب دورية بيلاروسية، ويبتزهم بمبلغ إضافي قدره 300 دولار ثم يطردهم من السيارة، وعند هذه النقطة يتم إدخالهم إلى بولندا من خلال سياج من الأسلاك الشائكة بعد دفعهم على نحو غير رسمي تحت سياج الأسلاك الشائكة، ولا يستغرق الأمر وقتًا طويلاً حتى يواجهون حرس الحدود البولنديين، الذين لا يقلّون قسوة عن نظرائهم على الجانب الآخر من السياج، ويعيدونهم من حيث أتوا، فيصير المهاجرون مثل الكرة بين أقدام حرس الحدود بين البلدين، يتقاذفونهم ويبتزونهم. من هنا يبدأ الجانب المأساوي المظلم من الرحلة بعد أن تضربهم قوات الأمن البيلاروسية وتسرقهم. يبدو الأمر كما لو أن البولنديين والبيلاروسيين يتنافسون على خلق البيئة الأكثر عدائية! وبمعزل عن المواجهة السياسية، يعيش المهاجرون ظروفًا قاسية، حيث يحاصرهم الجيش البيلاروسي من جانب والبولندي من جانب آخر، ويتّهم الغرب بيلاروسيا بالوقوف وراء تدفق المهاجرين للضغط على الاتحاد الأوروبي الذي فرض عقوبات على نظام ألكسندر لوكاشينكو. جذبت بيلاروسيا -بناء على أوامر رئيسها ألكسندر لوكاشينكو- اللاجئين إلى البلاد من أجل إلقائهم حرفيًا على بولندا، وبالتالي خلق كارثة إنسانية. بدورها، ردّت بولندا اليمينية على نحو متزايد، ببساطة عن طريق كسر قوانينها الخاصة وأمر الجنود بـ«إعادة» المهاجرين إلى بيلاروسيا. تقول إحدى النساء اللاجئات الحوامل: «يعاملوننا مثل كرة القدم»، في دورة لا تنتهي من البؤس والانفصال والعنف والموت.

في مشهد صادم، تطلب المرأة الأفغانية من حرس الحدود البيلاروسي قنينة ماء، لكنه يساومها على دفع خمسين يورو من ليلى مقابلها، ثم يختطف الأموال من دون إعطائها قنينة الماء. 

يعيش اللاجئون محاصَرين بالرعب والخوف بعد شيطنتهم من قِبل الحكومة البولندية ودعايتها التي تصورهم على أنهم «أسلحة» بوتين ضد أمتهم! يتجمدون ويتضورون جوعًا ويعانون من إصابات كبيرة، في حين يعاني أطفالهم من صدمة مؤلمة وسلسلة من الإهانات. تفقد الأسرة السورية ولدها الكبير نور، الفتى الرقيق الذي لم يشأ أن يترك المرأة الأفغانية التي صاحبتهم طوال الرحلة بمفردها، فما كان منه إلا أن لحق بها وانتهى أمره غارقًا في واحدة من مستنقعات الغابات الحدودية بعد هروبه من الحرس البولندي. «لقد رحل نور دون أن يتألم».. بهذه الكلمات ترثي ليلى -المرأة الأفغانية- الجسد الصغير الذي امتلأت رئته الغضة بالطين، في حين كان يحلم بهواء أكثر نقاءً من ذلك الذي تلوثه داعش بكرابيجها، أو تخنقه الحرب الأهلية بسواد البراميل المشتعلة، أي عالم هذا تنحبس فيه رئة الطفل الصغير ما بين دخان الوطن وطين المنفى؟؟ 

تُنقل ليلى إلى المستشفى وهي منهارة ومصدومة. قمة المأساة حين تلاحقها قوات حرس الحدود البولندي إلى المستشفى، تطردها وترميها خارج الحدود عبر الأسلاك الشائكة رغم حالتها المرضية السيئة. في هذا الفصل تكشف المخرجة هولاند ظلم البشر قبل قسوة الطبيعة والمعاناة التي لا تُعدّ ولا تُحصى، التي تواجه العائلة في رحلتها للانضمام إلى أقاربهم في السويد.

الفصل الثاني من الفيلم  يخص حرس الحدود البولندية. يظهر قائد الحرس يحذر جنوده من اللاجئين ويعتبرهم إرهابيين: «جاءوا لقتلك وقتل عائلتك، وكل لاجئ هو عبارة عن رصاصة محتملة في صدرك»، ومن خلال هذا المنطلق يجد كل جندي حرس حدود نفسه مطمئنًا لفكرة إلقاء اللاجئين من فوق الأسلاك إلى الجهة الأخرى. يقول أحد قادة الحدود البولنديين صراحة: «هؤلاء المهاجرون، على الرغم من قصصهم المؤلمة، هم أسلحة من لوكاشينكو وبوتين»، وفي الوقت نفسه، يحذر الحراس من عدم ترك أي أدلة يمكن أن تصبح شاهدًا على جرائمهم طبقًا لقوانين الاتحاد الأوروبي، مما قد يجعلهم عرضة للمحاكمة أمام المحاكم الدولية، قائلاً: «يجب ألا تتركوا جثثًا وراءكم».

في هذا الفصل نتعرف إلى أفراد من حرس الحدود البولندي، تحديدًا يان (توماش فلوسوك)، الجندي الشاب الذي توشك زوجته على الإنجاب ويُشارك على مضض في مأساة تعذيب اللاجئين. يتشوّه ضميره بسبب الفظائع التي يُجبره قادتُه على تنفيذها، وتُصعق زوجته عند رؤيتها ما يفعله في مقاطع مصوّرة على هاتفه، فتتعقّد علاقتهما وتشعر بعدم الأمان لطفلهما القادم في عالم يُلقي فيه أبوه امرأةً حامل من فوق الأسلاك كأنها كيس من النفايات، بل إن التناص هنا بين كون كلا المرأتين تحملان جنينًا في أرحامهما هو تناص مقصود تمامًا، بغرض لطم الشخصية والمتلقي على حد سواء. يصبح «يان» ممزقًا بين اضطراره لأداء وظيفته طبقًا لما هو مطلوب منه، وفي الوقت نفسه شعوره بالعار من الطريقة غير الإنسانية التي يعامِل بها اللاجئين، وهي أزمة وجودية تنتهي بالتصالح مع ذاته. في هذا الفصل تحاول المخرجة أغنيسكا هولاند استكشاف طبيعة هؤلاء الأفراد ونفسياتهم وسلوكياتهم. إنهم ضحايا أوامر القادة الذين يخبرونهم أنّ المهاجرين غير الشرعيين إرهابيون مُحتَمَلون، ونتساءل هل هم ضحايا الأوامر والتعليمات أم أنّهم مرضى ويتلذّذون بتعذيب الآخرين؟ يرصد هذا الجزء التناقض بين الحالة الإنسانية الخاصة وبين المهنة التي تقتضي التعامل العنيف والتغاضي عن الحس الإنساني. 

تُخصِّص المخرجة الفصل الثالث لكشف الجانب الإنساني من خلال المنظمات الإنسانية البولندية وبعض النشطاء السياسيين اليساريين المناهضين للسياسة الرسمية، وكيف يتسللون سرًا داخل المنطقة الحدودية ويقدمون للاجئين الأطعمةَ وبعض الملابس والأدوية ويستمعون إلى قصصهم. «لا أعرف لماذا أنا على قيد الحياة»، هكذا يتحدث اللاجئ السوري بشير أمام الكاميرا للنشطاء. وللعلم، فإن الممثل السوري «جلال الطويل» نفسه لاجئ بعد فراره من سوريا عام 2011 على إثر اعتقاله هناك. بشير وعائلته هم نماذج من اللاجئين التي تركز عليهم أغنيسكا هولاند في «الحدود الخضراء»، في محاولة لكشف محنة اللاجئين الذين يُصدمون بقسوة حرس الحدود ووحشيتهم، مما قد يكلفهم السجن والمطاردة. في الفصل الرابع نشاهد جوليا (ماجا أوستازيوسكا)، طبيبة نفسية وأرملة شابة تجد نفسها مرغمة على الاستجابة للواجب الذي تفرضه عليها مهنتها وحسها الإنساني، فهي تشهد بعينيها غرق الطفل السوري نور وتحاول إنقاذ المرأة الأفغانية من مستنقع لا قرار له بالقرب من بيتها في الغابة، فتحسم أمرها وتقرر اتخاذ موقف، فيُقبَض عليها ويُحقَّق معها، وتُرغَم على خلع ملابسها والوقوف عارية بغرض تفتيشها، ولا يُطلَق سراحها إلا بعد تدخل أحد أصدقائها، وهو محام معروف، بكفالة على ذمة القضية.

الانتقادات التي واجهت المخرجة هولاند بسبب فيلم «الحدود الخضراء»

واجهت المخرجة، البالغة من العمر 74 عامًا، أصعب الانتقادات في حياتها المهنية بعد إخراجها لفيلم «الحدود الخضراء»، ولم يكن الهجوم من النقّاد أو صناع السينما، بل من الحكومة البولندية، حين شبه المسؤولون فيلمها عن أزمة المهاجرين على الحدود البولندية البيلاروسية بـ«الدعاية النازية». تفاعلت المخرجة البولندية مع أزمة الألوف من اللاجئين -وأغلبهم من سوريا والشرق الأوسط- على الحدود البولندية البيلاروسية  خلال عام 2021 حين أغلقت بولندا الحدود عليهم بعد قدومهم من بيلاروسيا وسط أجواء الجوع والبرد، وقامت ببناء سور بارتفاع ثلاثة أمتار ونصف لمنعهم من العبور. في مؤتمر صحفي، أشارت المخرجة البولندية إلى أنها كانت أيضًا «لاجئة سياسية في فرنسا، في عام 1982، بعد الأحكام العرفية في بولندا»، ولهذا السبب، عند تصدّيها لإخراج الفيلم، فعلت ذلك وهي تعرف جيدًا «الإحباط والخوف والأحلام» لأبطالها. صُوِّر معظم الفيلم داخل الأراضي البولندية، بالرغم من  فضحه بجرأة كبيرة الموقف السلبي للسلطات البولندية تجاه قضية اللاجئين،. جرّدت المخرجة الحدود الخضراء من خُضرتها وجعلتها سوداء قاتمة وكئيبة لندرك عمق المأساة التي يعيشها هؤلاء اللاجئين في رحلتهم المضنية، وسلّطت دراما أغنيسكا هولاند الضوء على الأهوال التي يواجهها اللاجئون في منطقة الاستبعاد بين بولندا وبيلاروسيا. 

دراما المخرجة البولندية صراعٌ مع الطبيعة وظروف الغابة الصعبة، إضافة إلى سوء المعاملة من أشخاص تجردوا من إنسانيتهم. استند فيلم «الحدود ‏‏الخضراء‏‏» إلى سيناريو كتبته هولاند بالاشتراك مع غابرييلا لازاركيفيتش وماسيج بيسوك، والفيلم من تصوير المذهل توماس نيوميوك، وكان بالأبيض والأسود. اعتمدت المخرجة في كتابة سيناريو على الشهادات التي بلغت مئات الساعات من التسجيلات الصوتية والمصورة التي تحدث فيها اللاجئون وسكان المناطق المجاورة للحدود بين بولندا وبيلاروسيا، ونشطاء حقوق الإنسان وجمعيات الدفاع عن حقوق اللاجئين وبعض حراس الحدود الذين لم يكشفوا عن أسمائهم بطبيعة الحال. صرّحت المخرجة البولندية هولاند: «مُنع صانعو الأفلام الوثائقية والمراسلون من الاقتراب من الغابة، لكن ما يمكنني فعله هو صناعة فيلم روائي يصور هذه الأحداث التي تكشف ما يعانيه هؤلاء اللاجئون»، وشددت على ضرورة تقديم القصة بكامل تعقيدها بهدف تضخيم الأصوات التي كُتمت عند الحدود الخضراء، وفي هذا الشريط لا تلقي الضوء على قضية إنسانية ذات صلة فحسب، بل تتعمق أيضًا في المعضلات الأخلاقية الأعمق التي تواجهها المجتمعات والأفراد. اختيار نقطة الانطلاق الزمنية للفيلم قبل شهرين من الحرب الأوكرانية يحمل دلالة وذكاء المقارنة. 

في الختام، إن فيلم «الحدود الخضراء» يُدين الأطراف السياسية الرسمية مثل حكومة بيلاروسيا  والحكومة البولندية وحرسها الحدودي، وكذلك يُعرّي «حقوق الإنسان» التي تنادي بها أوروبا أمام الأسلاك الشائكة، في مقابل مَشاهد الحفاوة عند استقبال لاجئي أوكرانيا في الفصل الأخير من الفيلم الذي جسد نفاق المعايير الأوروبية.   


اقرأ أيضاً
مقالات

مَا قيمة الخوف في عالمٍ ميؤُوس مِنه؟

رُؤية ذاتية حول الخوف في عَالم ما بعد الكارثة. مثَّل المسلسل التِّلفزيوني «The Last Of Us» نموذجًا فريدًا في سِلسلة عوالِم البقاء على قيد الحياة، وعوالِم ما بعد الكارثة! وهو

مقالات

نقض رواية «الجريمة والعقاب» في مسلسل «أنت»

في مونولوج داخلي، يبرز كل من شخصية راسكولنيكوف في رواية دوستويفسكي «الجريمة والعقاب» وشخصية «جو» في مسلسل «أنت» You، موضحين ملامح الشخصية الانعزالية التي تميل إلى الحوار مع نفسها. راسكولنيكوف

Register

Register

Register

Register