للمدن أرواح
محمود نبيه
Maha Sultan

نتساءل كيف تتشكل شخصية المدينة؟ كيف نتفاعل مع المكان؟ ماذا بالضبط الذي يجعلنا ننتمي إلى المدن؟

المدينة في السينما أو في الفن بشكل عام يصحبها تعريفٌ مغاير بعض الشيء عن كونها فقط منطقة سكنية تحتوي على عدد كبير من الناس يسكنون بالقرب من بعضهم. المدينة كيان يحتوي على مجموعة من السكان ذوي طبع وفكر ومشاعر متنوعة، يتحركون في جغرافيا مدينتهم ويتفاعلون معها صحراوية كانت أو ساحلية، يتحركون بين معمارها، فيشكّل كل ذلك شخصيةً للمدينة، وتتشكل من بعد ذلك علاقة ثنائية تنعكس فيها المدينة بهويتها على سكانها ويعكس السكان روح مدينتهم.

ربما تحمل المدينة شخصية عامة لما تحتويه من ثقافة وأفكار ومِعمار، فتجد مُدُنًا تحب المشي ومدنًا لا تسمح به، وتحمل أيضًا بُعدًا شديد الخصوصية، فنكون نحن فقط من يحب المشي في تلك المدينة بالتحديد. الأسباب الأهم لشعورنا بالانتماء للمدن هي أسباب شخصية دائمًا، فنجد أن المكان هو أساس في أي ذكرى حميمية ولا يمكن أن نتجاهله، بل إنه يعيد إحياء قيم ومشاعر بداخلك؛ بمجرد أن تعود إليه ولو حتى بخيالك، تتداعى الذكريات، ولذلك دائمًا ما كانت المدن بالنسبة إلى صناع الأفلام تحمل أهمية ذاتية، وتحرك قصصهم في بعض الأوقات بدرجة من الأهمية تلاقي أهمية الشخصيات.

«كولومبوس» (2017): فيلم لـ«كوجنادا»

Columbus (2017)

لطالما كنت أعجز عن استيعاب فكرة تأمل الفنون التي تُعد أداتها الوحيدة أداة مرئية، ليست كالسينما والموسيقى لديها أدوات أكثر تنوعًا وليونة، ولكنها كيان ثابت تمامًا، ليس فيه حركة حتى كالتي تجدها في فن الفوتوغرافيا. أتكلم في هذا السياق بالتحديد عن فن المعمار، وما يطرحه «كوجنادا» في فيلمه هو أن ذلك الفن ليس مجرد عمل إبداعي جميل، ولكنك لو تأملته ستجد فيه ما يحركك، بل حتى يشفيك، فهو لديه ما يعبّر عنه، وفي ظني لو تأملتَ فيلم «كوجنادا» في ذاته، ستجد نفس التأثير، خصوصًا أنه يحثّك على ذلك، ومنذ حين وأنا لم أعد أضجر من محاولات والدي المستمرة أن ينقل لنا حبه لذلك الفن.

يحكي فيلم «كولومبوس» عن «كيسي»، فتاة مهووسة بالفن المعماري، و«چين»، ابن لأكاديمي مهم في نفس المجال والذي يسافر إلى «كولومبوس» بعد أن يدخل والده في غيبوبة. تتلاقى طرق الشخصيتين وتُعد علاقة الصداقة التي تنشأ بينهما على الشاشة هي نافذتنا للتعرف على كل منهما وعلى مدينة «كيسي» الأم. 

الفيلم مشغول بعلاقة «كيسي» بوالدتها وهي أيضًا أهم ما يربطها بالمدينة التي تحب.. علاقة دافئة، لكنها مركبة؛ تحب «كيسي» أمها ولا تُعجب بشخصها، وتحتاج إلى أن تترك «كولومبوس» رغم أنها حقًا تقدّر المدينة أكثر من غيرها، وتتحرك علاقة «چين» بوالده في اتجاه موازٍ، فيحتاج الأخير إلى البقاء في المدينة رغم توتر رؤيته لوالده، فتجد «كيسي» نفسها في حاجة إلى التغلب على مشاعرها للرحيل ويجد «چين» نفسه أمام نفس التحدي للبقاء.

يُعد أهم محرك للمحادثة بين «كيسي» و«جين» هو رغبتها في استعراض قائمتها للقطع المفضلة لها في المدينة، ويرسّخ «كوجنادا» باستمرار شغفه الدائم بذلك الفن، عن طريق اللقطات الثابتة، إخلاص شديد في توظيف الحواجز والمسافات، ويميل بشكل مبرَر لخلق لحظات هادئة للتأمل، دون أن يتضرر من ذلك إيقاع المحادثة أو تطور علاقة الصداقة الرئيسة أو كل علاقة على هامش قصتنا، وينتهي بنا الحال بترابط شديد مع كل شخصية، ونجد أنفسنا على درجات مختلفة من التفهم والتعاطف أيًا كانت النهاية، والأهم من ذلك، نجد أنفسنا على تواصل شديد الخصوصية مع مدينة «كولومبوس»، مدينة هادئة دافئة، تحب المشي، وتحثّ على التأمل والمحادثة، أو على الأقل، كذلك يراها كل من «كيسي» و«كوجنادا».

لا تُعد «روح المدينة» فكرة ملموسة بالتأكيد، ليست بشيء صلب تستند إليه، لكنك لا تستطيع أن تتجاهل الأمر حين يوجد؛ في كل فيلم يهتم صانعه بالمدينة التي تضم أحداثه وشخصياته، تحمل المدينة وزنًا هامًا في اكتمال مضمون الفيلم على مستوى المشاعر. على الأقل يصعب إنكار أن المدن دائمًا تعكس إيحاءً بشكل أو بآخر.

«يد الإله» (2021): فيلم لـ«سورينتينو»

The Hand of God (2021)

يرثي شاعر الجاهلية ابتداءً بالمكان، فلو فقد حبيبًا أو افترق عنه، يستدعي المكان، وتتداعى معه الذكريات والأشخاص والمشاعر والصور والمجازات. كل ذلك وليدٌ فقط لاستدعاء المكان، وهذا في ظني ما يفعله «سورينتينو» في فيلمه «يد الإله»: يقف على الأطلال. يبدأ بـ«نابولي»، ومنها ينساب كل شيء.

يحكي «سورينتينو» قصته. نبدأ بالتعرف على والديه وأخيه، وتبدو الأمور هادئة لفترة قبل أن يصطدم بواقع علاقتهما المتوترة وينهار تصوره عنهما ويجد خلال ذلك رابطًا حزينًا مع الأخ؛ هما شريكان في الصدمة، ولا يراه أحد بضعفه الحقيقي إلا أخاه، ومع الوقت يُسترجع الهدوء قبل أن يفقدا والديهما للأبد في صدمة أصعب.

يستعرض «سورينتينو» مدينة «نابولي» ومعها ذكراه، وتتشكل شخصيتها أمامنا، ويحكي كأي رجل تلمع عيناه حين يسرد مراهقته. يحكي عن «مارادونا»، عن وجوده في المدينة، عن ترقب ذلك بين الحالمين السذج وبين الواقعيين، وعن انتصار يد الإله للحالمين. يحكي عن «الخالة باتريزيا»، ويحكي عن الشاطئ، كأي رجل يعيد تصور ماضيه. يحكي «سورينتو» بحنين شديد، ويحكي أيضًا عن تبدّل الحال، عن الهروب إلى السينما.. يلوم والده ويرثيه، ويرثي كل شيء معه، ويشخّص «نابولي» مدينةً تضم من الجنون شيئًا، ومن الدفء شيئًا، ومن الحزن والبرودة شيئًا، ويكتب رسالة عن ماضيه متمثلًا في مدينته. ليست برسالة حب بالضرورة، ربما هي مناجاة.

ربما يشترك الفيلمان في أن كلا البطلين يتفاعلان مع مدينتهما الأم، أي أن علاقة الشخصية الرئيسة بالمدينة مرتبطة بعلاقتها بفكرة الوطن، وربما يشترك الوطن مع كيانين مهمين في كلا الفيلمين، الأمومة والأبوة، في أن الثلاثة -الوطن والأمومة والأبوة- يكونون أسمى المعاني في الأعين في نقطة معينة، ثم لا يعودون كذلك ببساطة، ليس لأنها تصبح معانٍ فارغة، بل لأن هشاشة قدسيتها تتضح، فيختار كلاهما بصعوبةٍ الرحيل، وهم يكنّون شعورًا استثنائيًا لمدينتهما.


اقرأ أيضاً
تدوينة الجمعة

ما مغزى الوصول للقمة العظمى؟

تحضر الأفلام المأخوذة من قصة حقيقية أو المستلهمة من قصص حقيقية وحتى الوثائقية برفقة الإجابات الوافية، والتي قد تكون مفتعلة ولكنها مقنعة في تفسير ما حصل فيها من حوادث، فهي

Register

Register

Register

Register