«النشالون»: حكاية عائلة لاسلطوية
المترجم: رشا كمال

قليلة هي الأفلام التي تستطيع أن تحقق شهرةً لجمالياتها الحسنة، ونجاحًا في شباك التذاكر. وفيلم «النشالون» واحد منها، ويعود الفضل إلى لغته السينمائية المدهشة، وكذلك لأبطاله: عائلة «شيباتا» العظيمة التي يتوحد معها الجمهور عاطفيًا، فقد أُجبرت هذه العائلة على العيش على هامش المجتمع بسبب واقعها الاجتماعي الجائر، وهم يكافحون لتجربة مشاعر الحب والسعادة على طريقتهم الخاصة. هذا على خلفية التعريفات الاجتماعية والثقافية والسياسية السائدة «للأسرة الحقيقية» و«للشخص الصالح». وهذه العائلة لا تجمعها رابطة بيولوجية أو أبوية ولكنها جماعة متجولة ذات أواصر متينة. وهذا ما أعدّه تعريفًا ذاتيًا لاسلطويًا للأسرة الجيدة.

العنوان الأصلي للفيلم باليابانية هو «مانبيكي مازوكو» ويعني عائلة من اللصوص، فكلمة «مانبيكي» تعني لصًا، و«مازوكو» تعني عائلة. ويُصوِّر المقطع الأول من الفيلم «اللصَ» من خلال عرض «أوسامو» وابنه المراهق «شوتا» وهما يسرقان البقالة سويًا. ثم تتبعهما الكاميرا في طريق عودتهما إلى عائلتهما. وفي طريق العودة، يلتقط أوسامو «جوري» ذات الخمسة أعوام، ويحضرها معه إلى المنزل لإطعامها، فغالبًا ما يراها في الجوار بائسة، وجائعة. هذه عائلة صغيرة متماسكة مكونة من ثلاثة أجيال يعيشون معًا في فقر مدقع، ولكنهم يَبدون قنوعين بحالهم الراهن. هذا هو المشهد الأول الذي تجتمع فيه العائلة لتناول العشاء، ولكنهم لا يجلسون على مقربة بعضهم من بعض، وإنما في زوايا مختلفة من أرجاء الغرفة، وهو تصوير دال على التفكك الشكلي للكيان الأسري.

تتفكك أسرار العائلة تدريجيًا كلما تقطع الكاميرا لمشاهد متفرقة، يركز كل واحد منها على الحياة اليومية لفرد من أفرادها. وتكشف زيارة المسؤول الحكومي عن أن المنزل الصغير مملوك للجدة، أكبر أفراد العائلة، وأن أوسامو ليس ابنها، وهذا يوضح السبب وراء عدم مناداته لها بـ«أمي» ولكن بـ«الجدة» مثلما يفعل بقية صغار العائلة. غير أن الأطفال لا يبدو أنهم ينتمون إلى هذا المكان، لذا تخبئهم الجدة فور وصول المسؤول. وهكذا يدرك المرء عدم وجود أي صلة بيولوجية تربط بين هؤلاء الأشخاص في هذا البيت ولكنهم مجتمعون لأسباب أخرى، مثل جوري الغريبة التي قاموا بإيوائها عندما اكتشفوا أن أبويها يسيئون معاملتها ولا يهتمون بها. أوسامو وزوجته «نوبويو» موظفان بدوام جزئي بمرتبات ضئيلة جدًا، و«أكي» الابنة الكبرى بائعة هوى، وشوتا لا يذهب إلى المدرسة وإنما يقرأ الكتب في المنزل. يتضح أن كل فرد من هذه العائلة مهمش بشكل أو بآخر.

على أي حال، لا ترضخ العائلة لقبول هذه الحقيقة، فهم موجودون كقوى بديلة للوقائع المنافقة والقاسية التي تقوم عليها القواعد الاجتماعية والثقافية والممارسات العرفية التي تحميها الشرطة وتتمتع بامتياز تحت مسمى «القانوني» و«الطبيعي». الجدة العجوز هجرها زوجها السابق وابنه، ولكن أوسامو وزوجته اعتنيا بها، وهي بدورها وفّرت لهما المأوى. وعندما ماتت الجدة لم يكن لديهما المال الكافي لدفنها، فاضطُرا لدفنها في المنزل لكي يبقيا على «صحبة الجدة للأبد». غير أن الشرطة ارتأت أن مثل هذا التصرف يعتبر«تخلُّصًا من الجثة». أنكرت نوبويو مزاعم الشرطي قائلة: «أنا لم أتخلص منها. أنا قبلت بها عندما تخلّص منها شخص آخر»، فنوبويو لديها أحكامها الخاصة فيما يتعلق بالصواب والخطأ، ولكن في أحيان قد يتعارض هذا الصواب مع القانون. أما شوتا وجوري فقد تخلى والداهما الشرعيان عنهما ولكن التقطهما أوسامو وقام بتربيتهما، ولهذا اتُهم بـ«الاختطاف».

بالنسبة إلى جوري، فإن فراقها لوالديها يشبه تحرُرَ حشرة زيز الحصاد من قشرتها القديمة، مثلما تتحدث جوري مع الحشرة: «هي وخزة صغيرة فحسب»، فالأمر ليس مؤلمًا ولكنه مجرد وخزة، والخروج من القشرة لاكتساب أجنحة هو المقابل للعيش في ظروف أفضل. وبعدما أعادت الشرطة جوري لوالديها الطبيعيين، تخلّيا عنها ثانيةً، وبقيت في المكان نفسه حيث تبناها أوسامو، فتسأل نوبويو الشرطي: «هل تجعل الولادة من المرأة أمًا حقيقية؟». يجادلها الشرطي في الرد: «ولكنها لن تصبح أمًا أبدًا إذا لم تلد طفلًا». يتضح أن مثل هذا الخطاب المعياري السائد من قِبَل الشرطة غير مجد عند مواجهة جوري لمآسٍ حقيقية. لذلك، لا يدّخر الفيلم جهدًا في السخرية من هذه العائلات «الشرعية» التي تتمتع بامتيازات ولكنها قاسية مقارنة بهذه العائلة غير الشرعية.

على أي حال، لا تخلو هذه العائلة من المشكلات، وأولها وأهمها السرقة، فهي مصدرهم الأساسي للدخل. تسرق جوري للمرة الأولى. تقوم بنزع سلك إنذار السرقة بقوة لكي تسمح لشوتا بالمرور من باب المتجر الأمامي مع عصا الصيد المسروقة. غير أن «مثل هذا المخطط الكبير» كما احتفل به أوسامو لم يجلب أي إحساس بمتعة بالنجاح لشوتا، وأثار لديه تساؤلات بدلًا من ذلك حول مدى الإنصاف من وراء سرقة الأشياء. أثناء سيرهم بجوار النهر بعد تلك الواقعة، يبدو شوتا شاردَ الذهن تاركًا مسافة واسعة بينه وبين أوسامو وجوري أثناء مشيه بمحاذاتهما. يوضح هذا التأطير جليًا أن شوتا قد بدأ يتساءل عن فعلتهم التي انتهوا منها مؤخرًا، كما ينبئ أيضًا بسلوكه المتمرد الأخير عندما كشف عن نفسه متعمدًا أثناء سرقة المتاجر، الأمر الذي أدى فيما بعد إلى تدخُّل الشرطة في أسرار الأسرة غير الشرعية. ويوحي الفيلم من خلال استخدام مجاز السرقة إلى الأثر التدميري لمثل هذا التجسيد اللاسلطوي ضد النظام الاقتصادي والسياسي، وحتمية عدم احتضان مثل هذه العائلة من قِبَل العالم الخارجي.

يستغل المخرج اللقطات الطويلة زمنيًا، وكذلك اللقطات من زوايا ضيقة لتأسيس النظرة المتأنية والدافئة لهذه العائلة، مما يوصل التقمص العاطفي العميق من خلال وجهة نظر الكاميرا. ومن خلال اختيارات ترتيب المشهد (الميزانسين)، يصبح الفيلم حكاية جميلة مسرودة بروية، عن عائلة لاسلطوية في عالم قمعي.


المصدر


اقرأ أيضاً
مقالات

إخوة ليلى: أحلام جيلٍ جديد

للعائلة قدسية في العالم العربي والإسلامي والمساس بها  شبه محرم. في فيلمه إخوة ليلى يستعرض لنا المخرج الشاب سعيد روستايي ويناقش “قداسة العائلة” بنموذج لعائلة تصارع الفقر وتسعى للوصول إلى

مقالات

تأملات حول ريتشارد لينكليتر ومعضلة الزمن

في إحدى ظهريات أثينا الحارّة، تجول المشّاء أرسطو كعادته متهادي الخطى ممارسًا هوايتيه المفضلتين: المشي والتفكير. لمع في ذهنه تساؤل له كل الحق في طرحه وإن بدا أمرًا محسومًا في

النقد

فيلم «عثمان» ودهشة رسم الشخصية

ترتبط المادة الفيلمية بعنصر الدهشة ارتباطًا وثيقًا، فبروز السينما وتساميها على الفنون الأخرى له علاقة وثيقة بقدراتها الهائلة على صناعة الدهشة. يصف الفيلسوف «رينيه ديكارت» الدهشة بكونها الشعور الإنساني الأول،

Register

Register

Register

Register