«ابن شاول» وأزمة أفلام الهولوكوست
المؤلف: ستيفن آلن كار ترجمة: عيسى العبيد
Maha Sultan

«ابن شاول» (لازلو نيميس، 2015) فيلمٌ عن الهولوكوست، إنما بطريقة تضاد جميع أفلام الهولوكوست الأخرى. وحتى نكونَ أكثر دقة: هو ليس فيلمَ هولوكوست إن أخذنا بالحسبان ما خبرناه سابقًا عن هذه النوعية من الأفلام، بل وأكثر من ذلك، إنه تفكيك راديكالي لها؛ فقد استبدل بالمشاهد المبهرةِ الذاتيةَ والحميميةَ. يرفضُ الفيلمُ الخلاصَ السهل، لكنه لا يمانع خلاصًا أكثر غموضًا وتعقيدًا. وحيثما يجد العمقَ يُخرجه إلى السطح (الشاشة)، وفي هذا السطح وعبر رؤية ضبابية يبني عمقًا جديدًا على مستوى الصورة. ورغم أن الفيلم يستخدم سمات مألوفة لبقية أفلام الهولوكوست -مثل اللقطات الواسعة والمشاهد الطويلة زمنيًا، الأعمال الوحشية، الضحايا العراة، المتفرجين.. إلا أنه من ناحية بصرية يقلب تلك الثيمات رأسًا على عقب.

تكمن عبقرية فيلم «ابن شاول» في مجادلته الراديكالية لثيمات أفلام الهولوكوست المعروفة، فنراه مع كل سردية جرى الاتفاق عليها يهدم إدعاءاته الخاصة، ويقوّض معها إدعاءات موروثة لأفنون قائم بالفعل. وكما ناقش والتر ميتز، فإن الفيلم «يكاد يرفض كل المبادئ الأساسية للأنماط السينمائية التقليدية»، إذ يضيف فيلم «ابن شاول» -مدينًا بالفضل لسينما الفظائع المذهلة- تعديلات مونتاجية منتظمة، وذلك خلافًا لنظام المونتاج التقليدي المتّبع في السينما الهوليوودية الكلاسيكية، الذي يقسم فضاء الصورة إلى لقطات واسعة ومتوسطة وعكسية ولقطات مقربة. وعوضًا عن ذلك، يؤكد الفيلم على لقطةِ «من وجهة نظر» point-of-view ثابتة، والتي ندركها من خلال سلسلة من اللقطات المقربة الطويلة والمأخوذة بكاميرا محمولة على الظهر، وهو بدوره ما يزعزع المساحات البصرية للمعسكرات التي عادةً ما تُصنع بدقة وإحكام كتلك التي رأيناها في أفلام مثل «لائحة شندلر» (1993) و«المنطقة الرمادية» (2002). وهذا الأخير يتناول كذلك حياة «الزوندركوماندوس» [Sonderkommando]، وهي وحدة داخل معسكرات الإبادة حظيت بشيء من الامتياز، وكانت مهمتها إجبار بعض السجناء «المحظوظين» على التواطؤ مع النازيين بإزالة أي دليل على البشاعات التي تحدث داخل المعسكر، مقابل فتات من الخبز أو أشهُر إضافية للحياة. لكنّ عالَم أفلام الهولوكوست في «المنطقة الرمادية» يبقى كما عهدناه، فتصويره السينمائي الهادئ ينبّئ عن أخلاقيةِ سعْيِ الأبطال الحثيث نحو خلاصهم الشخصي.

صورة 1: يخلق الفيلم عمقًا من الصور عن طريق التنظيم الضبابي للعناصر الوحشية في المشهد، هنا مثلًا يظهر ظل بعض أعضاء جماعة «زوندركوماندوس» وهم يحاولون خلسةً توثيق الجرائم الواقعة في المعتقل.

ما يجعل فيلم «ابن شاول» ساحرًا هو تطابق أسلوبه البصري مع سرديته التفكيكية الراديكالية. ومثله مثل فيلم «المنطقة الرمادية»، يصور فيلمنا ظاهريًا شاول أوسلاندر -وهو عضو من جماعة زوندركوماندوس في أوشفيتز- في مهمته لتوفير جنازة يهودية لأحد الأطفال. وعند اقتراب الفيلم من نهايته، يُنقذ شاول رجلًا من مقتلة جماعية، اعتقادًا منه بأنه حاخام بمقدوره أداء شعائر الجنازة، إلا أن الرجل، في مشهدٍ رئيس، يرفض ذلك، ما يثير عدة تساؤلات، أدجّال هو؟ أم أنه قد فقد ذاكرته؟ أم أن إيمانه هو الآخر راح ضحية في بحر من الكُربات؟ وأثناء هذا كله، ينهض شكٌ عن كون الفتى الميت ابنًا لشاول أم لا، فأحد أعضاء زوندركوماندوس يكذّب بأن لشاول زوجة، فأنى له بولد؟

مع مُضي الفيلم، يزور شاول إحدى السجينات في كانادا، وهو مستودع في أوشفيتز مخصص لبقايا أولئك الذين أحرقهم النازيون بالغاز. ومما يثير الاهتمام أن هذه السجينة واحدةٌ من الشخصيات القليلة التي يُشار إليها بالاسم: إيلا فريد. ولكن من تكون؟ أزوجةٌ أم أختٌ أم ابنةٌ أم حبيبة؟ يسلبنا الفيلم طمأنينةَ الاستقرار للمغايرة الجنسية، لكنه يقر -ربما يكون الشيء الوحيد المؤكد في الفيلم- بأن شاول يُدعى شاول، وأن في حياته -أو كان في حياته- علاقةً مع إنسان آخر لديه اسم وعائلة. إيلا نعرف يقينًا اسم عائلتها، وأوسلاندر قد يكون اسم عائلة شاول. ويلاحِظ ميتز أن هذا الاسم (أوسلاندر) ينسجم وحال شاول داخل المعسكر اللاإنساني: أجنبي غير جدير بهوية حقيقية1.

يدفعنا الفيلم إلى التفكير في أزمة ذات شِقّين متعلقة بالتمثيل، فإننا، من جهة، نهرع تجاه عصر فيه ناجون لا يزال بإمكانهم الحديث مع الجمهور وجهًا لوجه. ومن جهة أخرى، فقد بلغتْ أفلام الهولوكوست مرحلةً من التبادل الثقافي للقيَم بحيث لم تعد بعد اليوم مقصورة بالمشاهدة المتميزة2، أو محدودة بالدقة التاريخانية. وإلا كيف بوسعنا أن نفسّر الفيلم المقتبَس من رواية الناشئة «الصبي ذو البيجامة المقلمة»؟ فيلم ديزني المنتَج سنة 2008 يقتبس بأناقة قصةَ صبيين، أحدهما ابن قائد معسكر اعتقال، والآخر يهودي سجين، تجمعهما صداقة ويلتقيان عند الأسلاك الشائكة للمعسكر. معلمو اليوم يستخدمون مثل هذه الأفلام لتدريس تاريخ الهولوكوست.

مثل هذه الأفلام حين تُطوَّع لخدمة هذا التاريخ، فإنها توّعي الأجيال الجديدة بعالم الهولوكوست وصوره وتمثلاته. وفي زمنٍ تُستغل فيه خطابات الحقوق المدنية والصور التاريخية للفظائع للتأثير على قضايا سياسية مثل شخصية الجنين، هل يمكننا القول إن على أفلام الهولوكوست المهمة أن تنجو وتُبعد عن الفضاء الثقافي العام؟ بسبب الحضور المتتالي للصور الوسيطة التي تُعبّر عن تاريخ وعن شهادة الناجين الحقيقيين، لم تعد علاقتنا بتاريخ الهولوكوست كما هي، فهذه الصور ذاتها غدتْ جامدةً مجردة ويسعها التعبير عن المعاني والمقاصد جميعها. لقد ماتت سينما الهولوكوست، ولكن فيلم «ابن شاول» وجد منفذًا مؤقتًا كي يغير أسلوبه بالكامل. فلتحيا سينما الهولوكوست!


الهوامش

  1. معنى اسم Ausländer أجنبي أو غريب.
  2. المشاهدة المتميزة privileged spectatorship: أن يكون المُشاهد مُطّلعًا على أحداث لم ترها الشخصيات الأخرى بعد.
  3. المصدر
اقرأ أيضاً
النقد

فيلم «أغنية البجعة» لهناء العمير

بتروشكا.. بتروشكا.. بتروشكا  لعدة أيام ظل هذا الاسم الروسي يتردد في فضاء البيت بأداء ابني الصغير الذي شاهد معي فيلم المخرجة السعودية هناء العمير «أغنية البجعة». كان ابني الذي لم

النقد

البيانو: حكاية أنثويّة صامتة

دخلت جين كامبيون التاريخ عندما أصبحت أوّل امرأة، (وأوّل امرأة في نيوزيلندا) تحصل على السعفة الذهبيّة المرموقة في مهرجان كان السينمائيّ عن فيلمها «البيانو» عام (1993). تدور قصّة كامبيون في

Register

Register

Register

Register