صندوق الطائر والعمى التجنُّبي
المؤلف: سردار كوتشوك ترجمة: محمد السعيد
Maha Sultan

«فلتديري نشرة الأخبار، يا بلهاء»، تقول جيسيكا (سارة بولسون) لأختها مالوري (ساندرا بولوك)، بطلة الفيلم الشهير، “صندوق الطائر” (Bird Box) (سوزان بيير، 2018). لم تعلم مالوري تمامًا عن الانتحارات الجماعية غير المفسَرة في أوروبا الشرقية، ولم تتزود من البقالة لملء مطبخها. يبدو أنها لا تهتم بما يحدث في العالم، والتقارير الصادمة حول الكارثة الراهنة على التلفاز ليست كافية لتحفيزها على التصرّف: «في نهاية الأمر، الكارثة في روسيا»، لتطفئ التلفاز، وتستمر في الرسم في مرسمها الجديد.

في غفلتها المريحة، مالوري واحدة منا، أي من المحظوظين الذين يتنعّمون بالقدرة على الانسحاب من رؤية التجليّات المأساوية للحياة الحديثة. الأطفال اللاجئون في الأقفاص وهم مشرَّدون عن آبائهم، والحرب الأهلية في سوريا، وخراب الغلاف الحيوي الذي لا رجعة فيه، كل هذا يحدث داخل الرؤية المحيطية للنخبة. ومثلها، إننا نُعمي أنفسنا عن العالم بضغطة زر، ولا نتدخّل في شؤون غير شؤوننا. «إن لم تعترف بوجود شيء، فإنه يندثر ببساطة»، تقول جيسيكا بنبرة تهكمية أثناء جلسة السونوغرام.

ولكن “صندوق الطائر” يذكّرنا أن ما يحدث على الشاشة لا يبقى هناك دائمًا. ثمة تأويل آخر للسرد—والذي تقدمه رواية بنفس الاسم للكاتب جوش مالرمان—يحذّرنا من قدوم زمن حيث لا يندثر “الشيء” ببساطة. إن رأينا الفيلم كحكاية رمزية، تكمن أصالته في الثمن المضحك الذي تدفعه الإنسانية من أجل الهامارتيا1، وهو العمى التجنّبي للشؤون الإنسانية والنظام البيئي الذي غدا مأساةً جمعية.

لم يعد إطفاء شاشات التلفاز كافيًا للهروب من “الحقيقة” التي تدوّم أمام الباب. في وجه الحقائق الوحشية—كالمأزق الذي يواجهه الأحياء على كوكب مهدد بالخطر—والتي تظهر على شكل كائنات تعاني من اضطراب ذهاني في الفيلم، يصبح العمى السبيلَ الوحيد للحفاظ على السلامة العقلية. لهذا، اُستبدل العش المريح الذي بناه الأفراد المعزولون لأنفسهم بمنازل محكمة الإغلاق كالصناديق، حيث تغلق الشخصيات المذعورة على أنفسها لتنجو. العزلة لم تعد عرضيّة كما تظهر في لوحة مالوري التجريدية، بل قدرًا محتومًا. يعرض الفيلم بأسلوب كرنفالي سوداوي المجانين والعاجزين والانتحاريين وحريّاتهم على التنقل.

Figure 2: Mad Gary forces Cheryl to “see it.”

تعرض رواية مالرمان استيهامات متكررة لفشل الإنسانية في توريث عالم قابل للعيش للجيل القادم. لكن الفيلم يعرض هذه الغواية في مستوى جديد تمامًا. تذكّرنا رؤية الشخصيات على الشاشة وهم يضعون عصبة الرأس ويزيلونها كيف نرى ونواري أبصارنا يوميًّا عن عالم كامل ببكسلات متحركة في كل هنيهة. يستذكر الفيلم الصور التفكيكية التي ناقشها ثيودور أدورنو وماكس هوركهايمر حول صناعة الثقافة، وجان لويس بودري في الاستيهامات التي تخلقها المعدات السينمائية، حيث يقول إنها قديمة وغير مواكبة. نحن ندّعي الاستمتاع بعصرٍ نشارك فيه بإدراك ومجهولية وعن بعد في شبكة رقمية ضخمة، وهذا يعرّضنا لمِحن جديدة من العزلة.

يتضمن الفيلم المقتبَس تفاصيل جسيمة لم تحملها الرواية، مثل الرسم والسونوغرام. يتسم سلوك مالوري في البداية بالشك وليس بعدم الاهتمام. تعبّر الشخصيات في الفيلم بسلوكيات مختلفة تجاه نهاية العالم التي تزحف شيئًا فشيئًا، كما أسفرت هذه الشخصيات عن أصوات متباينة حتى ولو كانوا قِلّة من الناجين.

Figure 3: “The end game” for humanity.

يكشف تعامل الشخصيات مع حقيقة نهاية العالم عن هوياتهم. دوغلاس (جون مالكوفتش) مهذار، وهو ليس واحدًا من شخصيات الرواية. إنه لا يختلف كثيرًا عن العالِم الذي يجعجع عن الاحتباس الحراري أو عن أنصار حركة السترات الصفراء المتظاهرين ضد الضرائب في شوارع باريس. لقد تعاملت الشخصيات الأخرى معه وفقًا لشخصيته قبل إسكاته تمامًا. دوغلاس مزعج مثل نشرة الأخبار على التلفاز لأنه يقول الحقيقة المُرة، ودائمًا يكون على صواب في النهاية.

تكشف ملاحظة دوغلاس الساخرة—«في خلاصة الأمر، ثمة نوعان من البشر: الحمقى والموتى»—عن مخطط نجاة مالوري في نهاية الفيلم، فهي ليست متفوقة أخلاقيًّا على الآخرين لكنها الأنسب؛ لتنشئتها القاسية في مزرعة أبيها. لقد استفادت من تاريخها العائلي الزراعي، والذي قطعت أي علاقة به في قصة الفيلم. خلافًا عن مالوري، أوليمبيا (دانيل ماكدونالد) تعرف منذ البداية أنها «ضعيفة» وليست مؤهلة على حماية طفلها.

توم (تريفانتي رودز)، عامل من الطبقة الكادحة من ذوي البشرة السوداء وجندي متقاعد، أكثر شخصية مميزة في الفيلم. في الرواية، كان من ذوي البشرة البيضاء، أشقر وأزرق العينَين، ومعلّمًا في مدرسة متوسطة. توم قوي لكنه لا يشارك نفس القيم الرواقية الأنانية مثل دوغلاس ومالوري. شَغَلَ دورَ المفتدي بنفسه والحاضن، وهذا هو الدور الذي فُرض على مالوري عندما أنجبت أطفالًا. لقد كان توم ودودًا مع الآخرين ولم يُعْمِ نفسه عمن يحتاج المساعدة، ولم تُلبسه خدمته في الجيش ثوبَ الاستغلال الإمبريالي. يبني الفيلم شخصيته من خلال تفانيه في حماية الأطفال العراقيين. ومن خلال عزمه السفر إلى أقاصي العالم لمساعدة الإنسانية، لا يعزل توم نفسه عن باقي العالم كما فعلت مالوري، فهو مواطن عالمي مثالي. 

Figure 4: Tom tells his children about trees, flowers and clouds in the good old days.

يتميز فيلم “صندوق الطائر” عن باقي الأعمال التخييلية في تطبيعها السخيف للعنف. فتشارلي—وهو فرد آخر من المجموعة—يقول: «قصص الأطفال تلك حيث يقتلون بعضهم بعضًا للنجاة، أو يركضون داخل متاهة، عظيمة». في بعض الأحيان، يميل هذا الفيلم المختلف في كفة الطرح البيئي لفيلم “أم!” الأكثر تطرفًا في الجماليات والسرد (دارين أرنوفسكي، 2017).

يكاد فيلم “صندوق الطائر” أن يطابق فيلم “مكان هادئ” (جون كراسينسكي، 2018)، إذ يتمركز كلا الفيلمَين حول بداية سردية عكسية من الوسط2، من الحضارة إلى البداءة. تحت تهديد كائنات مجهولة، يضطر البشر إلى حبس الحواس في كلا الفيلمَين، العمى في “صندوق الطائر” والخَرَس في “مكان هادئ”. عند النظر إليهما معًا، الأصل اللامُفسَّر والمجهول لهذا الخطر يرسم الحدود والفشل النهائي للبشر في استعباد الطبيعة من خلال السعي الدؤوب للمعرفة.

Figure 5: Lee warns his children to stay quiet in order to survive.

في الوقت الراهن، ينهار آخر ملجأ للبنية الاجتماعية، الأسرة الأولية3، مع موت الأب. مع التناقص المتسارع للمجتمع، ليس هناك سوى الانقراض في كلا الفيلمَين. لكن الأم تنقذ أبناءها بمساعدة الطبيعة. المياه في “مكان هادئ” والطيور في “صندوق الطائر” كلاهما درعٌ وأمل للأجيال المستقبلية (هذه الرمزية فريدة في الفيلم المقتبس عن الرواية).

Figure 6: The newborn is put in a soundproof box.

يكمن الفرق الأكبر بين الفيلمَين في النهاية. بينما تتعلم شخصيات “مكان هادئ” على نحوٍ مبتذل كيفية الصراع باستخدام التقنية، في “صندوق الطائر” يجب أن يتعايشوا في طريقة جديدة كليًّا. ولهذا، يتيح الأخير مساحة أكبر لتأويل مجازي، خصوصًا إن فُسرَ كنبوءة شوهاء عن الانصرام القاسي لحقبة التأثير البشري (أنثروبوسين)4.

“صندوق الطائر” إعادة قصّ لمأساة أوديب، الذي فقأ عينيه نتيجةَ أخطائه. بطل القصة الذي اضطر لعصْبِ عينَيه ما هو إلا الإنسان الذي عُوقبَ لانعزاله الذي طال. من سوفوكليس إلى “صندوق الطائر”، تُبقي المساحةُ الشخصية، التي تعزل الفرد عن باقي الكون المحيط البشرَ غافلين عن حقيقةِ أنهم متوجهون دائمًا نحو الانقراض.


المصادر والهوامش

  1.  هامارتيا مصطلح صكّه أرسطو في “فن الشعر”، والمقصود منه ضعف الشخصية وعيوبها التي تقودها للمأساة. على سبيل المثال، في مسرحية “أوديب ملكًا”، يُعد جهل أوديب بجذوره هامارتيا، حيث قتل أباه وتزوج أمه ثم فقأ عينَيه.
  2.  In medias res، وهي تقنية أدبية يُبدأ بها السرد من وسط الأحداث. على سبيل المثال، تبدأ إلياذة هوميروس من غضبة أخيليوس وليس مما أثار الحرب، أي، خطف هيلانة أو نبوءة الأمير باريس.
  3. مصطلح في علم الاجتماع، يصف الأسرة التقليدية التي تتكون من أبوَين وأطفال، بخلاف التعريفات الحديثة لأشكال الأسر في الأزمنة الحديثة، وبالترجمة الحرفية “أسرة نواة”.
  4.  حقبة تؤرخ لأكبر تأثير بشري على الأرض من نواحٍ تقنية وجيولوجية ومناخية. يختلف العلماء في تاريخ الحقبة لكنهم يُجمعون على تأثير العنصر البشري والذي تغيرت به الأرض.
اقرأ أيضاً
النقد

فيلم «وداعًا جوليا»: السياسي في ثوب الاجتماعي

موضوع فيلم «وداعًا جوليا» (2023)، كتابة وإخراج محمد كردفاني، هو العلاقة بين شمال السودان وجنوبه، والنظرة الدونية التي ساهمت في الفصل الاجتماعي وأحدثت شرخًا بين الشمال والجنوب وكانت أحد أسباب

ميم

«حد الطار» وبداية سرد حكاياتنا العضوية 

جمالية فيلم «حد الطار» لعبدالعزيز الشلاحي، تبدأ من الطاقة الإيحائية التي يبثها عنوان الفيلم المُستل من مفردتين دالتين، الأولى «حد» التي تُعبّر عن السيف، الذي يُنفَّذ به حكم الإعدام في

Register

Register

Register

Register