إذا كانت رواية الإيرلندي جيمس جويس «يوليسيس» قد اشتهرت منذ بدايات القرن العشرين، عصر السينما وأفلمة الأدب بامتياز، بكونها الرواية الحديثة الأكثر عصيانًا على الخضوع للاقتباس السينمائي رغم أحلام سرعان ما خابت، داعبت بعض كبار أهل السينما، فإن الأسطورة الإغريقية التي بنى عليها جويس روايته الكبرى وتُنسب إلى شاعر الإغريق هوميروس منذ ألوف السنين بدت دائمًا أكثر عصيانًا. ومع ذلك لم يخل الأمر من محاولات شديدة الأهمية أو قليلتها، قام بها سينمائيون كبار لخوض التجربة، أحيانًا بصورة مباشرة، ولكن في أحيان أُخر، بدت على أية حال، أكثر نجاحًا، بصورة غير مباشرة تلتف على الموضوع لتدلي بدلوها في عالم ينهل من الأساطير والروايات الكبرى حكايات تتحول إلى أعمال سينمائية.
ونعرف أن نوعًا شعبيًا من سينما المغامرات، ونوعًا أقل شعبية من السينما الأكثر جدية وعمقًا، قد حملا بشكل أو بآخر سمات متنوعة من «الأوديسة» كما من «الإلياذة» بصورة أقل، حتى وإن كانت قلة من القراء يمكنها التفريق حقًا بين الأسطورتين في تكاملهما على اعتبار «الإلياذة» سردًا تاريخيًا للحروب الطروادية التي يخوضها يوليسيس قادمًا من مدينته إيثاكا، تاركًا زوجته المحبوبة بينيلوب وابنه تيليماك، فيما «الأوديسة» تصور رحلة عودة يوليسيس إلى إيثاكا كما إلى بينيلوب في تجوال استغرق منه عشر سنوات. ومهما يكن لا شك أن رحلة العودة كانت هي ما لفت دائمًا الأنظار واجتذب الاهتمام وربما لأن المرحلة الأولى كانت تاريخًا جماعيًا معروفًا، في حين كانت رحلة العودة أمرًا شخصيًا يحمل سمات البطولة الفردية والمسعى الوجودي.
المهم أن معظم الأفلام السينمائية التي دنت من عالم الأسطورتين المتكاملتين قد ركّز على مغامرة يوليسيس في طريق عودته والصعوبات التي جابهته والأفكار التي استبدت به وما إلى ذلك، وهو على أية حال الشيء نفسه الذي فعله جيمس جويس في «إعادته كتابة تجوال يوليسه الخاص» وهو ما سنحاول في هذا النص أن ندنو منه من خلال عدد ضئيل لكنه بالغ الدلالة من الأفلام الأساسية التي حاولت الدنو من حكاية «يوليسيس» في معانيها بأكثر مما في تفاصيلها.
ولعل من الأفضل هنا أن نتوقف أول الأمر عند عدد من أفلام «تاريخية» حُققت في إيطاليا خلال الربع الثالث من القرن العشرين، مستفيدة من تطور تقنيات الصوت والتلوين والشاشة العريضة، ورغبة الجمهور في مشاهدة أفلام تاريخية تعيّشه تلك المغامرات التي كان متآلفًا معها منذ صباه وفي دروس الأدب، كما أن الجمهور السينمائي كان متآلفًا مع النوعية التي تنتمي إليها منذ بدايات السينما وظهور الأفلام التاريخية الضخمة («كابيريا» الإيطالي عام 1914، على سبيل المثال). ولعل أول ما يخطر على البال هنا سلسلة أفلام حُققت في سنوات الخمسين تجمع بين الملاحم والحكايات التاريخية والأساطير وغالبًا ما تدور من حول أبطال كان من أشهرهم «هرقل» الذي كان ستيف ريفز من أنجح من أدوا دوره في أفلام لا تخلو من إتقان. ولقد بقي ريفز وهِرقلهُ سَيّدَي النوع على الأقل حتى ظهور الأميركي كيرك دوغلاس في شخصية يوليسيس في الفيلم الحامل اسمه عنوانًا له من إخراج ماريو كاميريني (1954) فصار لهرقل منافس لامع حتى وإن بدا الفيلم أقرب إلى المغامرات الغرائبية التي يخوضها هذا الأخير، منه إلى حكاية البطل العائد إلى إيثاكا بعد غياب.
وقد لا نكون في حاجة هنا إلى القول بأن كُثّر من صناع السينما الجماهيرية الإيطالية قد حذوا -في تلك السنوات الذهبية- حذو كامريني، مستلهمين فصولاً من حكايات يوليسيسية. لا يمكن للمتفرج العربي على أية حال إلا أن يلاحظ سندباديتها! ولا يمكن للمؤرخ في المقابل إلا أن يلاحظ النجاحات الكبيرة التي حققتها في شباك التذاكر إن لم يكن في ردود فعل النقاد الذين كثيرًا ما نعوا على تلك الأفلام خلوّها من الدلالات التي تبرر ربطها بالملحمتين المؤسستين.
هؤلاء النقاد فضّلوا على أية حال نوعية أخرى من الأفلام التي تنهل من «الأوديسة» على الأقل، ودون أن تقول ذلك صراحةً، تاركةً لهم أحيانًا تفسير الأمر حين ينغلق على جمهور ما، وذلك لأن المواربة في تعامل السينما الحديثة مع الأسطورة القديمة كانت تبدو منغلقة على الإدراك في أحيان كثيرة. ولعل خير ما نفعله هنا هو التوقف عند ثلاثة أو أربعة أفلام تحمل تواقيع عدد مماثل من سينمائيين كبار عرفوا كيف يستلهمون ذلك النص الكبير الذي يمكننا أن ندرك استحالة نقل الشاشة له كما هو.
وفي مقدمة أولئك، كما حاله حين يكون في مقدمة ما، جان-لوك غودار الذي اقتَبس في العام 1963 من الكاتب الإيطالي ألبرتو مورافيا، موضوع وعنوان فيلمه «الاحتقار» الذي أسند بطولته إلى نجمة زمانها في ذلك الحين بريجيت باردو، إلى جانب ميشال بيكولي، وجاك بالانس، وحتى فريتز لانغ المخرج الكبير الذي أُسند إليه هنا دور مخرج سينمائي جمع من حوله رهطًا من ممثلين وتقنيين يصورون في جزيرة كابري الإيطالية الساحرة نسخة سينمائية من ملحمة «الأوديسة»، وبالتالي الفيلم يدور من حول تصوير ذلك الفيلم، لكنه ومن خلال إشارة إلى خيانة بينيلوب ليوليسيس في غيابه، بعد انتظار طويل، يضعنا في نقلة زمنية محبوكة بدقة، في مواجهة أزمة الحياة الزوجية وخواء حياة الثنائي في زماننا المعاصر هذا.
ومن «الاحتقار» ننطلق إلى التحفة السينمائية «2001: أوديسا الفضاء» الذي حققه ستانلي كيوبريك في العام 1968 ليُعتبر من حينها أعظم فيلم خيال علمي تحقق في تاريخ السينما، غير أن النقاد والمؤرخين الأكثر جدية تجاوزوا ذلك الاعتبار لينظروا إلى رحلة رائد الفضاء إلى العوالم الخارجية وعودته آخر الفيلم إلى عالمه التاريخي العريق نوعًا، وآية ذلك الغرفة الساحرة المؤثثة بأفخم قطع الأثاث من طراز لويس الخامس عشر والتي يجد نفسه فيها رائد الفضاء العائد من أبعد العوالم عن الأرض، وسط بيئة تحيط بولادة طفل غامض، من التأشير على رحلة يوليسيس، ناهيك باعتبارهم الصراع على متن المركبة الفضائية ضد الكومبيوتر «هال-500» صورة من ناحية لصراع المخلوقات الأرضية مع المجهول منذ فجر الزمن، كما للصراعات التي يخوضها يوليسيس ضد الوحوش الضارية وغرائب المخلوقات في رحلة عودته إلى إيثاكا.
في فيلم «أين أنت يا أخي؟» للأخوين الأميركيين جويل وناثان كون (2000) لدينا، رغم العنوان التوراتي، صورة ما، تعكس الرحلة اليوليسية ولكن بعد أن تحوّل يوليسيس (تحت ملامح جورج كلوني في واحد من أفضل أدواره المبكرة) إلى سجين يتمكن من الفرار من سجنه في ولاية ميسيسيبي الجنوبية الأميركية خلال فترة الكساد الكبير في سنوات الثلاثين، ليقطع الفيافي والقفار الأميركية مرات على قدميه ومرات على متن قطار يستقله خفية وغالبًا في رفقة هاربين مثله ولكن دائمًا بناءً على دعوة غامضة من حوريات ينادينه باسم الإنجيل رغم أنهن لسن في الحقيقة سوى صورة من حوريات «الأوديسة» اللواتي يلعبن دورًا أساسيًا في الملحمة الهوميرية لا يقل أهمية عن دور الكورس في المسرح التراجيدي الإغريقي.
وفي النهاية هنا، ولكي نكتفي بهذه النماذج ذات الدلالة والحاملة تواقيع سينمائيين كبار، نتوقف عند الفيلم الأكثر فصاحة في يوليسيته بين هذه المجموعة من الأفلام، فيلم «نظرة يوليسيس» الذي حققه المخرج اليوناني ثيو أنجيلوبولوس، تحديدًا لمناسبة احتفال فن السينما بمئويته الأولى (1995)، وهو فيلم نقل أحداث الملحمة من مياه شرقي البحر الأبيض المتوسط إلى منطقة البلقان حيث يتجول بطله السينمائي من بلد بلقاني إلى آخر باحثًا عن النسخة الأصلية الضائعة من فيلم سينمائي يوناني مؤسس للسينما اليونانية قد شرع في تصويره عند بدايات تاريخ السينما ويتناول بلُغة شاعرية بل رمزية حتى، حكاية يوليسيس وعودته إلى إيثاكا. لكن الحرب العالمية الأولى تمنع المنتِج من مواصلة تحقيق الفيلم، وها هو السينمائي المعاصر لنا وخلال حروب البلقان المندلعة عند نهاية القرن العشرين، يتجول باحثًا عن الفيلم الضائع ليعثر عليه أخيرًا في ساراجيفو الملتهبة بالنار والدمار. وتكون النهاية نوعًا من الترميز من طريق ما يحكيه السينمائي عن لاجدوى تجواله، في تلك الرحلة اليوليسية التي يعترف الفيلم لنا بأنها لم تكن في نهاية الأمر أكثر من حكي بلا جدوى يصف حكاية لا ندري إن كان علينا أن نصدقها أو نعتبرها حكاية وهمية، كحال الفيلم الضائع الذي تتجلى وهميته بعد العثور على أشرطته!!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش