«لسنوات عديدة، كنت أبحث عن صورة مفقودة: صورة فوتوغرافية بحد ذاتها، بالطبع، لا تستطيع صورة أن تثبت جريمة قتل جماعي، لكنها تُثير التفكير، وتُحفز على التأمل، وعلى تدوين التاريخ. بحثت عنها دون جدوى في الأرشيفات، والوثائق القديمة، وفي القرى الريفية. اليوم أدرك: أن هذه الصورة لابد أن تكون مفقودة. لذا، صنعتها. ما أقدمه هنا ليس الصورة، ولا البحث عن صورة فريدة، بل صورة البحث نفسه: البحث الذي تُتيحه السينما» - ريثي بانه.
في افتتاحية فيلمه «الصورة المفقودة» يقدم ريثي مقاربة أو شرحا لمعنى أن تصنع فيلما وثائقيا حين تكون وسائط التوثيق المادية غير متاحة أو مفقودة. أو عن «كيف يمكننا السعي لإعادة بناء الماضي إذا لم تكن لدينا مادة أرشيفية لتوثيقه؟» كما تقول المخرجة أسماء المدير وكما تجسد ذلك عبر أفلامها الفريدة.
على نفس المنوال تسعى هذه المخرجة المغربية التي كان ريثي أحد الذين طبعوا مسيرتها، إلى جانب مخرجين آخرين شكلوا هذا التراكم من الخبرات والتجارب والمشاهدات الذي جعل منها صانعة الأفلام المتميزة التي استطاعت أن تطوع الصوت والصورة والخيال لتخرج أفلاما سينمائية أصيلة ومؤثرة. وذلك إلى جانب عناصر أخرى لا تقل أهمية ذكرتها أسماء بشغف كبير في ندوة أقيمت ضمن فعاليات مؤتمر النقد السينمائي في الرياض إذ تقول: «أنا إبنة سقراط، صنعتني الفلسفة، صنعني الملل والشعور بالفقدان، صنعني البيت فالبيت يأتي قبل مدرسة السينما ليصنع ويشكل الفنان خاصة إذا امتلك فن الحكي» نحاول في هذا المقال تناول أهم نقاط الندوة على ضوء مشاهدة وقراءة أعمال أسماء المدير الوثائقية.
البحث في تاريخ العائلة
من البيت تبدأ مسيرة ورحلة أسماء المدير ومنه تبرز الخطوط الرئيسية لأبرز وأهم أفلامها: «في زاوية أمي» و«كذب أبيض»، حيث العائلة هي الثيمة الأبرز التي ميزت أعمالها وفتحت لها المجال لتطور طريقة أصيلة في الكتابة بالضوء مُحمّلة بالأحاسيس والمشاعر الصادقة، فكانت أشبه بمختبر خاص مفتوح على كل احتمالات التجريب والبحث والتنقيب عن الحقائق؛ حقائق العائلة المتوارية إلى جانب حقائق البلد المسكوت عنها. فعلى مدار سبع سنوات كانت تحمل الكاميرا الصغيرة خاصتها وتتنقل في البيت والحي تطرح الأسئلة وتراكم موادها المرئية، وتزيح عن شخصيات فيلمها المحتملة هذه الرهبة والخوف تجاه الكاميرا. وفقط حين نجحت في جعل الكاميرا عنصرا محايدا وغير مرئي تمكنت من تحقيق هذه الاستجابة المثالية وهذا التفاعل الحيوي لعائلتها أمام الكاميرا، كأن الكاميرا ذاتها قد صارت جزءا من البيت وكان ذلك حاسما لنجاح فيلمها.
وبينما يجسد فيلم «في زاوية أمي» ما يشبه رسالة حب من ابنة إلى أمها، حيث تخوض الابنة رحلتها الروحية أو الذاتية انطلاقا من صورة كانت بحوزة والدتها عن مدينتها الأم؛ كانت هي دليلها الوحيد في هذه الرحلة، لاكتشاف قرية نائية في جبال الأطلس الكبير كانت مسقط رأس والدتها، في سعي منها للإحاطة بأصول وماضي والدتها، وعلى نحو ما بأصولها هي نفسها. فإن فيلم «كذب أبيض» أو «أم كل الأكاذيب» هو رحلة من نوع آخر بدأت شرارتها من خلال صدمة اكتشاف كذب وزيف صورة كانت الصورة الوحيدة التي تملكها عن طفولتها. وفي لحظة الاكتشاف الفارقة جاء التساؤل الوجيه حول سبب اختفاء الصور من حياة عائلتها وما الحقيقة المخفية خلف حرمة الصور التي ترسخ لها وتشدد عليها الجدة المتسلطة؟ شخصيات عديدة رسمت معالم هذه القصة، من واقع أسماء المدير وحياتها نفسها؛ جدتها، والداها، وجيرانها.
إن ما يصنع الفيلم ليس المخرج في صورته البالغة وإنما الطفل ذو الاثني عشر سنة الذي كان عليه المخرج. والذي لا يزال متشبثا بحكاياته وماضيه. طبعت طفولة أسماء المدير أحداث مؤثرة، وملأت التساؤلات ذهنها وعانت من افتقاد للصور ترك بداخلها فجوة وتوقا كبيرا للبحث. وفي غياب الصورة جاءت هذه الرغبة الملحة في خلقها. تتجه أسماء الطفلة بعد اكتشاف كذبة الأم إلى التقاط الصورة الوحيدة التي أرخت لطفولتها، بعيدا عن أعين والديها وكان لهذا الحدث الأثر الأقوى في حياتها فجعلته مقدمة لفيلمها.
تقول أسماء المدير: «وراء كل صورة بحوزتنا حكاية، فأنا أحكي قصتي مع الصورة الوحيدة التي وجدت، فمنطلق هذا الفيلم أن وراء تلك الصور حكاية، ووراء صمت عبد الله حكاية، ووراء قسوة الجدة حكاية، وتلك الحكايات تتداخل في البيت، ويصبح البيت نموذجا مصغرا لبيوت أخرى في البلد وربما في بلدان أخرى، وتلك هي الرحلة أن يصبح كل ما حولك مشاركا في كتابة القصة، حتى الجماد والمنازل تصبح كذلك عبر ما تحويه من حكايات». شكلت أسماء من خلال التقاطها لواقع عائلتها، صورة للعائلة تماثل عائلات المغرب وتتقاسم معها الكثير من الوقائع والسمات المشتركة مما جعل فيلمها يحظى بإقبال وتفاعل واحتواء جماهيري كبير في بلدها الأم، وفي بلدان متفرقة من العالم أيضا. وإذا كان تولستوي يشير في مستهل روايته إلى أن «كل العائلات السعيدة تتشابه، بينما لكل عائلة تعيسة طريقتها الخاصة في التعاسة»، فإن أسماء المدير تظهر إلى أي درجة تتشابه العائلات وتتقاسم ذات أشكال التعاسة وماضيا قاتما مسكوتا عنه، إلى جانب ذاكرة مشتركة ملغمة تحتاج شخصا بارعا لتفكيكها. لدرجة أن رحلة واحدة لاكتشاف ماضي عائلة من عائلات المغرب كانت كفيلة بأن تعكس صورة متوارية لمجتمع كامل طُبعت ذاكرته بأحداث أليمة لا يزال أثرها باقيا إلى هذا الحين. لأن الصمت والكتمان لا يمكن أن يشفيا ما ظل غائر في الروح، بل لا يأتي الشفاء إلا عبر خوض غمار الطرق الوعرة وعبر المخاطرة التي جسدتها وخاضتها أسماء المدير بشجاعة كبيرة، وعبر سينما تراها مستفزة، تنكأ الجراح، وتستفز مناطق ما حساسة عند كل شخصية من الشخصيات، لكنها تمهد -عبر ذلك- السبيل إلى الشفاء من خلال شجاعة المواجهة وتقبل النظر إلى وجه الحقيقة العاري.
الكتابة بالصوت
من يعرف سينما أسماء يدرك إلى أي درجة تسعى لأن تكتب وتشكل وترسم معالم سينماها من خلال الصوت، وإلى أي درجة شكل الصوت وسيطا أثيريا عمق من بلاغة أفلامها، ومن تجربتها السينمائية. هذا الصوت الذي يتساوى لديها من حيث ثقله وقيمته مع العنصر البصري، إذ تراه الكتابة الثالثة للفيلم بعد السيناريو وبناء الأفكار، وله حضورٌ قوي ومتنوع في سينماها، فمن جهة نرى صوت الراوي حاضراً طيلة مدة الفيلم والذي لا يمكن اعتباره راويا خارجا عن القصة بل جزءا منها ولهذا هي لا تراه «فويس أوفر» أو الصوت الذي يُعلّق على القصة، وإنما تُسميه «الصوت الداخلي» لأنه صوت لشخصية منتمية إلى مجموع شخصيات الفيلم ومتفاعلة معها صوتا وصورة، ويمكن التأشير إليه وسؤاله «أين أنت من هذا الفيلم؟» وكما توضح أسماء المدير، «أنا وصوتي الداخلي كنا معا في فيلم كذب أبيض».
إلى جانب ذلك، نراها لا تميل إلى جعل الموسيقى خلفية لأحداث فيلمها لكونها تدرك أن ما تتعامل معه وما تحاول رسمه هو حياة واقعية: «السينما هي مرآة لنقل الواقع، لذلك فإن توظيف الموسيقى كخلفية في الوثائقي ليس مناسبا، لأننا في حياتنا الواقعية لا نتحدث بخلفية موسيقية».
لكنها في المقابل لا تستغني عن الموسيقى وتوظفها توظيفا دقيقا ليس كخلفية موسيقية للأحداث وإنما كتجليات تخلق عبرها إنتقالات ذكية بين المشاهد؛ تحقق نوعا من الاتصال الذي يخلق ارتباكا ما. فتذكر في حديثها أحد هذه الانتقالات لمشهد من مشاهد فيلمها «كذب أبيض» حيث تتمايل دمى فرقة ناس الغيوان على أنغام الموسيقى التي تعزفها، ثم تنتقل الكاميرا إلى الأب الذي يحاول ضبط مذياع تنبعث منه ذات الموسيقى، فيضع هذا التلاعب بالصوت المُشاهد في حالة من الارتباك حول مصدر هذه الموسيقى هل هو عزف الفرقة أم مذياع الوالد.
تذكر عشقها الكبير للصوت، وتصف عملا بالغ الحساسية والاتقان قامت به رفقة استوديو متخصص في إنتاج أصوات «الفولي - Foley» حرصا منها على ألا تغفل أي صوت في المشاهد التي عملت عليها ابتداءً من صوت الذبابة الصغير إلى غاية صوت تحطم الزجاج الحابس للأنفاس. تشير إلى أهمية المونتاج الصوتي الذي عملت عليه بجهد وحرص كبير يوازي حرصها وعنايتها بالمونتاج المرئي. ويأتي عملها مؤكدا لذكاء توظيف الصوت بطبقاته المختلفة ويمكن القول أنها استطاعت من خلال اعتنائها الكبير بالعنصر الصوتي وبهذا التناغم ما بين «الصمت» و«التجلي الصوتي» الذي شهدنا تحققه في فيلمها كذب أبيض أن تخلق مستوى رفيعا وسلسا من التفاعل ما بين الصوت والصورة، في صورة انسجام بالغ التأثير. تجلى عبر مشاهد عديدة لعل أبرزها مشهد رواية عبدالله لقصة سجنه المؤثرة مستعينا بالدمى وإيقاع صوتها.
بناء القصة عبر الدمى
يندرج فيلم أسماء المدير «كذب أبيض» ضمن الفيلم الوثائقي الهجين، الذي أجادت أسماء توظيف عنصر الخيال فيه، عبر وسيط «تشكيلي» مبني على نحت الدمى واستعمال الألوان، دون أن تخل بطبيعته الوثائقية، فتجلى هذا الانتقال السحري بين مشاهد الدمى ومشاهد العائلة التي تتداخل وتتصل وتتطابق مع سير وتقدم القصة. ومن هنا تبرز ضرورة أن يتم ابتكار وبناء جزء هام من الإخراج انطلاقا من المونتاج الذي يصبح هو مربط الفرس في مدى تناغم وتكامل الفيلم واتساقه. وهنا تظهر أهمية اللعب بالعناصر المرئية والصوتية ودقة توظيفها لتعزيز كل مشهد. وقد أخذ المونتاج من أسماء ما يقارب السنتين حيث عملت على مادة فيلمية بحجم ساعي كبير يصل إلى خمسمائة ساعة مصورة، قامت بتوضيبها لوحدها خلال عملية المونتاج، التي كانت بمثابة كتابة أخرى للفيلم، وما كان العمل ليظهر بالصورة التي رأيناها عليه لولا هذه المحطة الحاسمة من محطات صنع الفيلم التي أجادتها أسماء وأبدعت فيها.
توظف أسماء المدير التماثيل والدمى لتحقق نوعا من الضمان لاستمرارية تواجد وحضور الشخصيات، فهي كانت تتعامل مع شخصيات من الواقع لا يمكن توقع ردات فعلها، وضمن إطار وامتداد زمني واسع جدا ومفتوح على كافة التغيرات والأحداث القدرية. فخلال عشر سنوات من العمل لا يمكن ضمان استمرارية تواجد الشخصيات ذاتها التي بُني عليها الفيلم. ومن ناحية أخرى، فإن الدمى تخلق مسافة بين الشخصيات الحقيقية وبين القصة، فتصير قادرة على البوح، وتُحرَّر الكلمة فيصبح حينها ممكنا تتبع الحقائق وتعقبها ومساءلة الواقع والماضي والذاكرة.
تقول: «الكل يتحدث اليوم عن الصحة النفسية، فلكي أتخلص من عبء الشخصيات التي كنت أعيش معها مثل الجدة وقمعها، وحبها المتسلط، صرت أراها بوصفها شخصيات أفلام، لأتصالح معها. وأتعامل معها على هذا النحو لأحمي نفسي، ولكي أخوض انتحارا، فهو انتحار من حيث المجازفة بصفتك مخرجا في بداياته تخرج فيلما مع شخصيات لا يعرفها أحد. وكما يقول تاركوفسكي «إن السينما فن معقد ونحن يجب أن نقدم ذواتنا قربانا لهذا الفن»
وبالفعل، فرغم أنها ترى أن إخراج فيلم بهذه الذاتية يعتبر ضربا من الانتحار للمخرج الذي يكون في بداياته لأنه يعمل على قصة ذاتية بشخصيات غير معروفة وغير متوقعة، ولكنها مع ذلك استطاعت أن تجازف وتخرج شخصياتها من البيت وتجعل من تجربتها تجربة فريدة وفارقة، مقدمة نفسها وعائلتها قربانا لهذا الفيلم، مجازفة قادتها إلى نجاح باهر. ولعل أحد أبرز صور ذلك النجاح هي شخصية الجدة التي برغم مزاجها الصعب استطاعت أن تطوعها وتخلق من تواجدها في المشهد حضورا سينمائيا بليغا، وتظهرها كشخصية يكتنفها الغموض، تخلق -برغم قسوتها- لدى المشاهد انجذابا ما وتعاطفا، إلى جانب شخصية عبد الله الذي روى قصته بصوت شجي مستعينا بالدمى في مشهد لا ينسى.
التوسع عبر الخيال وتعدد طبقات الفيلم
ما بين الروائي والوثائقي، ترى أسماء المدير أن كلاهما سينما والفارق، أنه عندما يموت البطل في الفيلم الوثائقي لا يمكنه أن يعود لتحية الجمهور بعكس الفيلم الروائي. وتقول: «أن تخاف من الخيال عند العمل على الفيلم الوثائقي فهذا خطر كبير جدا، فنحن لا نصنع الحقيقة وإنما نضع كل ما بوسعنا -حين نصنع فيلما روائيا- لنشبه الحقيقة، وعندما نصنع فيلما وثائقيا نضع كل ما بوسعنا لنشبه الخيال». الحقائق بالنسبة لأسماء هي المادة الخام والمادة الخام ليست فيلما ولذلك فإن إجلاس شخصيات الفيلم على كرسي ومحاورتها ليس فيلما ولن يصبح كذلك ولن يكتمل إلا عبر عنصر الخيال، تقول: «مقادير السينما بالنسبة لي هي الضوء، والصوت، والبعد الجمالي، والإمتاع أو الإغراء الفني والجمالي، إلى جانب الأحاسيس التي إن غابت غابت كل السينما، وصناعة الأحاسيس تحتاج مقادير صناعة الخيال التي لا يجب تهيّب الخوض فيها وتجربتها وتوظيفها، أن تكون منتصرا هو أن تصنع بقواعدك الخاصة شيئا لا يشبه ما ألفناه»
بالنسبة لها فإن إخراج فيلم هو عملية معقدة ومتصلة في عمقها بالطفلة التي كانت عليها، وخلف سذاجة العناصر البسيطة التي قدمتها تكمن رسالة قوية تفلت من قيود الرقابة، وتصنع طبقات مختلفة ومتعددة للفيلم تضمن التحليق في علو آمن. ليصبح عملا كونيا يتفاعل معه المشاهدون باختلاف خلفياتهم وأعمارهم. فالتحدي هنا هو تحقيق هذه المعادلة الصعبة ولا يكون ذلك إلا عبر ما تسميه «اللعب» الذي يعني في مفهومه عكس ما هو مباشر؛ أي اللعب بطبقات القراءة. فالمباشر هنا هو الصحافي، ولذلك كانت تصر أمام جدتها على التأكيد: «أنا لست صحافية أنا مخرجة». يبرز عنصر الخيال في فيلمها «كذب أبيض» من خلال عملية إعادة التمثيل نفسها، ومن خلال الوسائط التشكيلية، و الرموز والصوت، ومن خلال الإحالات العديدة التي تبرز خلال الفيلم، والتي تعزز البعد السينمائي للفيلم الوثائقي وتعدد من طبقاته وتوسع من نطاق تأثيره.
في الختام، وكما يقول المخرج ريثي بانه الذي بحث عن صور توثق ماضيا مظلما دون جدوى «كانت الصور مفقودة لذا صنعتها»، تطوع أسماء المدير في سينماها الخيال والصوت والألوان وترسم صورة كانت مفقودة في ذاكرتها وذاكرة عائلتها ووطنها، صورة قاتمة لكنها بمجرد أن تمتلكها تتحرر من سطوتها ومن ثقل الذاكرة التي يكتنفها الغموض والصمت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش