مقالات

«سعيدٌ مثل لازارو»: تأملات ذئب في الانحلال الإنساني

«لم أكن أريد إلا أن أعيش وفق الدوافع التي تنبع من نفسي الحقيقية.
فلِمَ كان ذلك بهذه الصعوبة؟» 1


يعيد فيلم «سعيدٌ مثل لازارو» Happy as Lazzaro إلى ذاكرتنا مطلع رواية «دميان» التي افتتح بها الروائي
الألماني «هرمان هسه» حياة سنكلير المعذبة، عن تجربته الأولى التي تهز كيانه الطفولي وتُغيِّر نظرته المثالية،
بسبب قساوة العالم الخارجي بواقعيته المخيفة، ولكن لازارو ( أدريانو تارديولو)، الذي يجمع بين شخصيتين من
الكتاب المقدس هما «لعازر» 2 والمسيح، لا يفقد براءته رغم كل شيء.
حتى اليوم، احتل المراهقون أدوارًا بارزة في جميع أفلام أليس روهرواشر الطويلة والقصيرة بدءًا من أول ظهور لها
في فيلم «الجسد السماوي» (2011)، و«العجائب» (2013)، وفيلمنا «سعيدٌ مثل لازارو» (2018)، و«فوتورا»
(2021)، وأخيرًا إلى أحدث أفلامها القصيرة «التلاميذ» (2022). في التقدير العام، المراهقون ليسوا أطفالًا ولا
بالغين، فهم يعيشون في وضع غامض بيولوجيًا وأيديولوجيًا داخل المجتمع، وهو ترتيب غالبًا ما يُشار إليه. في
أفلامها، تعمل روهرواشر على تعزيز الحِدّية المتأصلة في شخصياتها من خلال إزاحتهم، جسديًا ومجازيًا، إلى هامش
المجتمع. هذا الاستبعاد المكاني والاجتماعي هو الذي يسمح لهم بتحديد السلوكيات البديلة التي تعارض الأيديولوجية
السائدة داخل مناطقهم الاجتماعية. وبالاستفادة من موقعهم الهامشي، تُوظّف المخرجة روهرواشر شخصيات المراهقين
لانتقاد التيار السائد في المجتمع الإيطالي.
«سعيدٌ مثل لازارو» فيلم من كتابة وإخراج أليس روهرواشر، وتدور أحداثه في قرية نائية وسط إيطاليا، تُعرف باسم
إنفيولاتا (أي نقية)، يعيش المزارعون فيها حياة من الكدح والشقاء، ومهما بذلوا من جهود، سواء في مواسم القحط أو
الكفاف، فإنهم دومًا مديونون للماركيزة المستبدة ألفونسينا دي لونا (نيكوليتا براشي) التي تملك كل شيء، وتدير
مزارعها بطريقة استعبادية. وداخل هذه الدوامة، يتعرض لازارو لكل أنواع الاستغلال من البشر (الماركيزة ،
المزارعين، الأخ غير الشقيق)، والذي دومًا ما يُتبع اسمه بطلب مثل الحراسة أو التنظيف أو الحصاد، وهو يمتثل
لجميع الأوامر بسعادة بالغة.
خلال عقود، نُسجت عديدٌ من القصص والأساطير التي تمنع سكان القرية من عبور الجسر فوق النهر نحو العالم
الخارجي. هذا الجسر هو الطريق الوحيد إلى العالم الخارجي، وقد دمرته عاصفة قوية منذ أمد طويل.
في أحد مشاهد الفيلم، تُعبّر الماركيزة في حديثها مع ابنها عن نظرتها إلى الفلاحين، بالقول: «البشر كالبهائم..
حيوانات.. اجعلهم أحرارًا، وسيدركون أنهم عبيد محاصرون في بؤسهم. إنهم يعانون الآن، لكنهم لا يعرفون ذلك. أنا
أستغلهم وهم يستغلون ذلك المسكين. هذه سلسلة لا يمكن إيقافها». وفي أحد الأيام المشؤومة، يصادق ابن الماركيزا
المدلّل تانكريدي (لوكا تشيكوفاني) لازارو، لأنه يريد مساعدته في خطة لتزييف اختطافه وابتزاز أمه المتغطرسة
للحصول على ثروة. يوافق لازارو، مدفوعًا بالصداقة والواجب والولاء. صداقة لازارو شبه السرية مع ابن
الماركيزا، وافتتانه العفيف بشابة تدعى أنطونيا (ألبا روهرواشر، أخت المخرجة وواحدة من أفضل الممثلات
الأوروبيات في جيلها) هما أعظم حدثَين في حياة لازارو، لكن الخطة تؤدي إلى بحث الشرطة عن تانكريدي، وتنبههم
إلى شيء أهم من الخطف وهو وجود مجتمع من الفقراء والسجناء يرزحون تحت وطأة العبودية. يقع لازارو نفسه
في هذيان محموم، ويسقط من أعلى الصخر قتيلًا، لكن هذا مقدمة لحدث آخر. وفي الأثناء، يتم القبض على
الماركيزة، ومصادرة جميع أموالها، ويتحرر المزارعون العبيد من هذه العبودية ويُنقَلون إلى المدينة، لكنهم يلاقون
عبودية جديدة، فيعيشون في فقر شديد بجوار خطوط السكك الحديدية في المدينة.

وبعد مرور عشرين سنة، يواجه لازارو مصير الشخص الذي يحمل اسمه في الكتاب المقدس، حيث يستيقظ من
الموت. الجميع سيكبرون، مشتتين ومهزومين، لكن لازارو، الذي شمَّ فيه الذئب رائحة مختلفة عن بقية البشر، رائحة
الإنسان الصالح، ولم يلمسه، سيعود من الموت دون أن يفقد براءته، فهو وُلد ملاكًا وسيعود ملاكًا، ولكنه سيتفاجأ أنه
في عالم متغير ومتوحش.
يذهب لازارو إلى القرية فلا يجد فيها أحدًا غير بعض اللصوص، فيواصل مسيره نحو المدينة. تعرِض روهرواشر
المدينة من خلال عيون لازارو الضائعة والباردة، الذي يبحث عن عائلته وصديقه العزيز تانكريدي. وخلال رحلته
تتعرف عليه امرأة من أهل القرية تعيش مع بقية أفراد عائلتها. يعتقد الجميع أنه شيطان أو روح شريرة بعد أن رأوا
أنه ما زال شابًا. وعندما يجد أبناء قريته، نلاحظ أن الشيخوخة ليست فقط هي التي غيرت أهله، بل أصبحوا أيضًا
محاصرين داخل دائرة جديدة من الفقر والنبذ المجتمعي. وبرغم إشارة روهرواشر إلى شخصية لعازر الدينية، فإنه
حينما يتبعه المزارعون السابقون بالدخول إلى الكاتدرائية للاستماع إلى الموسيقى يتم إخراجهم في إشارة إلى أن
الكنيسة أيضًا تخلّت عن الفقراء. ولكن يحدث الحل بشكل سحري، فعندما يخرج لازارو، يتوقف «الأرغن» عن
العزف، وتهب الرياح وتغادر الموسيقى معه صوب جماعته وهم يدفعون شاحنتهم المعطلة على الطريق.
يسمح افتتان روهرواشر بالخرافات بالسفر عبر الزمن، بحيث يشهد لازارو على عصرين منفصلين من الاستغلال
الاقتصادي والاجتماعي، ومن المثير للاهتمام أن رحلة المزارعين من الريف في النصف الأول الذي حمل طابع
القرون الوسطى إلى المدينة في النصف الثاني من الفيلم الذي حمل طابع العصر الحديث، هي رحلة من الفقر الريفي
إلى العوز الحضري، وصحيح أنهم كانوا قادرين على الحصول على قدر من الرضا في أحلك الظروف، إلا أن
استمرار معاناتهم تؤكد الحقيقية البشعة: أن تحرير العبيد كان وما زال مطلبًا اقتصاديًا أكثر مما هو إنساني.
لاحقًا، يلتقي لازارو بصديقه بالمصادفة وهو يعيش الآن في فقر مدقع نتيجة حجر البنك على أمواله. يرغب لازارو
في مساعدته فيذهب إلى البنك، ويطلب من موظفيه أن يسترجعوا مال صديقه. يعتقد جميعُ مَن في البنك أنه يحمل
سلاحًا، وعندما يدركون أن السلاح الذي يمتلكه هو مقلاع بدائي، ينهالون جميعهم عليه ضربًا حتى يموت. في
النهاية، يركض الذئب في أنحاء المدينة مثل «ذئب السهوب» للروائي الألماني هرمان هسه وهو يشهد على انتهاك
البراءة والنقاء والطيبة، وحيدًا يلهث بين السيارات دون أن يراه أحد، فيما ظلّ الناس ينظرون إلى الطيبة والطُّهر في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

1 دميان، هرمان هسه، ٢٠١٥، دار أثر، ترجمة ممدوح عدوان
2 تستند قصة الفيلم إلى واحدة من أغرب القصص الدينية التي ذُكرت في الكتاب المقدس، وهي قصة إقامة لعازر من الموت.

أ. محمد الكرامي
April 2, 2024
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا