النقد

روبير بريسون : زهد الطريقة في السبيل إلى الحقيقة

أسئلة تُطرح؛ تقديم

هل يجب أن يمتلك الفنان رؤية نظرية «قَبْلية» عن طبيعة الفن الذي يمارسه ويشتغل به؟ أم أنها تتبلور وتتكشّف «بعدَ» اضطلاع الفنان بتحقيق مشروعاته الواحد تلو الآخر والاحتكاك العملي بأدوات هذا الفن، أي أنها «بَعدية»؟ أو، ربما تكون مزيجًا بين «القبلية» و«البعدية»، بمعنى أن الفنان ينطلق من أساس نظريّ ما ثم يراجعه ويغير فيه تجربةً إثر أخرى بالتزامن مع تقدم مشروعه الفني وتراكم الخبرات؟ وما الذي تحاول هذه الرؤية النظرية الوصول إليه، تحديدًا؟ هل هي محض نزهة عقلية دونما اتصالٍ بواقع الفن المنجز؟ أم أنها استقصاء لخاصية طبيعة الفن؟ بمعنى الخاصية التي يتمايز بها فنٌ ما عن غيره من الفنون، تلك الخاصية التي تحرره وتمنحه استقلاله، ترسم له حدودًا وتمنحه شرعيّة الوجود. لعل الأمر لا يعدو كونه محاولة الفنان -عبر هذا الاستقصاء النظري- تشكيل أسلوبه الخاص تمييزًا عن أنداده في ذات المجال؟ وهذا بدوره يطرح سؤالًا آخرَ: ما الأسلوب، أصلًا؟ وهل ثمة من ترابط بين الاثنين، أي: بين الأسلوب والمضمون؟

لا أزعم أن تجيب الفقرات التالية عن كل هذه الأسئلة، ولا حتى أنها ستجيب عن بعضها على نحو قاطع، وإنما هذه الأسئلة ما انفكت تؤرقني وتُلِّحُ عليّ منذ مدة، وباتت تشكل تداعيًا فكريًا أتلمس به طريقي في التعاطي مع أفلام مبدعي السينما الكبار منذ فترة. قد يساعدنا «روبير بريسون» في الإجابة عن بعض هذه الأسئلة، ومن خلال هذه الأسئلة بالذات يمكننا أن نتحاور ونتناقش مع مشروعه الفني.

حين نقف أمام بريسون، فإننا نقف إزاء حالة فنية خاصة وحادثة إبداعية فريدة. أتذكر شعوري عند مشاهدة أفلامه لأول مرة: وكأنني أمام حدث «جليل»، بالمعنى الكانطي للكلمة؛ ترك الفيلم في نفسي أثرًا غائرًا لأيامٍ. ولكي أبين للقارئ الذي لا يعرف أفلام «بريسون» أنني لا أبالغ، سأورد شهادات اثنين من أكبر المؤثرين في الحركة السينمائية عبر تاريخها القصير: غودار وتاركوفسكي، فعلى اختلافهما، اجتمعا على التقدير البالغ لهذا الفنان الاستثنائي. قال غودار مثلاً: «هو السينما الفرنسية، كما أن دوستويفسكي هو الرواية الروسية، وموزارت هو الموسيقى الألمانية». 1وبرغم عدم دقة الكلام وخِفته، فإنه تدليل على مكانة بريسون من مبدع آخر يمثل نقيضه التام في المذهب الفني، وغودار، كما نعلم، هو ناقد سينمائي قبل كونه مخرجًا. وفي مكان آخر يقول: «فيلم بريسون هو العالم في ساعة ونصف». 2 وبرغم عدم دقة الكلام وخِفته، فإنه تدليل على مكانة بريسون من مبدع آخر يمثل نقيضه التام في المذهب الفني، وغودار، كما نعلم، هو ناقد سينمائي قبل كونه مخرجًا. وفي مكان آخر يقول: «فيلم بريسون هو العالم في ساعة ونصف». أما تاركوفسكي فقد قال: «دائمًا ما أذهلني بريسون بزهده الفني. يبدو لي أنه المخرج الوحيد في العالم الذي حقّق البساطة الكاملة في السينما، كما حققها باخ في الموسيقى، ودافنشي في الرسم، وتولستوي في الكتابة».3

كيف حقّق بريسون البساطة المطلقة؟ أو البحث عن المعنى الضائع

بريسون عبدٌ للحقيقة، أو بالأحرى مهووس بالمطلق ويتطلع دائمًا إلى الترانسندنتاليّ4، لذا فهو يقصد هذه البساطة المطلقة ويجرد فيلمه من كل ما هو زائد منتزعًا عنه كل زخرفة، حتى يتسنى للحقيقة النفاذ إلى المُشاهد دون تشتيت، فكما كتب هو نفسه: «لا شيء زائد، لا شيء ناقص». 5 يؤسس مخرجُنا حالة التبتّل الفني هذه في مسعاه نحو الإمساك بالمطلق والنزوع إلى الترانسندنتاليّ على أسس نظرية واضحة وصارمة، دوّن بعضها على هيئة شذرات راهب في كتابه «مدونات حول السينماتوغراف»، وصرّح ببعضها الآخر في لقاءاته وحواراته. والكتاب عبارة عن استقصاء نظري للخاصية التي يمكن أن يتمايز بها هذا الفن اليافع عن غيره من الفنون، كما فعل تاركوفسكي في كتابه «النحت في الزمن»6.

تنجلي هذه الأسس النظرية حتى من عنوان الكتاب نفسه: «مدونات حول السينماتوغراف»7. يفرّق بريسون على نحو جازم بين مفهومين من الأفلام: السينما والسينماتوغراف. وهنا لا يقصد بالسينماتوغراف المعنى التقليدي المتعارف عليه من حركة الكاميرا والإضاءة وما إلى ذلك، بل المقصود هو رؤية كلية وشاملة، أو يمكن القول إنه يحاول صياغة لغة «سينماتوغرافية» عامة تُستخدم في الحكي المرئي يستقل بها عن اللغة المسرحية. في شذراته يرى بريسون أن السينما هي المسرح إنما بتقنيات أكثر حداثة، أو بعبارته: «المسرح المصوّر»8، في حين أن السينماتوغراف على حد قوله: «كتابة بالصور في حركتها، وبالأصوات»9، ويترتب على هذا الفصل المعياري عدة اختلافات اصطلاحية ومفهومية. كتب بريسون:

«لا ممثلون، لا إدارة ممثلين

لا أدوار، لا دراسة أدوار

لا إخراج، إنما أستخدم موديلات من الحياة

أن نكون "موديلاً" بدل أن نظهر كأننا "ممثلون"»10.

في النسق السينماتوغرافي الذي اعتنقه بريسون يقابلُ المبدعُ السينماتوغرافي المخرجَ السينمائي، والممثل يقابله الموديل. قد يبدو أن هذه مجرد تفريقات اصطلاحية عَرضية، إلا أن الأمر عكس هذا، حيث يترتب على هذه الاختلافات تباينٌ بالغ في العناصر الفنية للفيلم كذلك، فمثلاً رفضُ بريسون توظيف ممثلين محترفين في أفلامه واستخدامُه للموديل، يترتب عليه اختلاف نوعيّ في المنحى الأدائي: التلقائية أو الأتمتة (automatism) ضد التعبيرية. إن الموديلات في أفلامه لا تتغير تعبيراتها تحت أي ظرف تقريبًا: وجوه جامدة ومتخشبة على مدار الفيلم. بالنسبة إلى بريسون لا تنتمي المدرسة التعبيرية في الأداء إلى السينماتوغراف، بل هي سمة مسرحيّة وجدت طريقها مخاتلة إلى السينما. يكتب: «من العبث أن نجد أنه أكثر طبيعية تأدية حركة أو إلقاء جملة وفق هذه الطريقة أو تلك، فلا معنى لذلك في السينماتوغراف»، وفي موضع آخر: «قل لموديلاتك: "لا تفكروا في ما تقولون، لا تفكروا في ما تفعلون"»، كما كتب تحت عنوان «في التلقائية»: «إن تسعة أعشار حركاتنا تخضع للعادة والتلقائية. ومن غير الطبيعي أن تخضعها للإرادة والفكر»11.

يرى بريسون أنه في السينماتوغراف يجب ألّا تلعب التعبيرية المسرحية أي دور في نقل الأحاسيس والمشاعر، بل يجب أن نعتمد على «قوة العين القاذفة» بحسب تعبيره. يؤمن بريسون أن الطاقة التعبيرية في السينماتوغراف يجب أن تتولد من العلاقة الجدليّة بين الصوت والصورة والتناوب المستمر بينهما، ولكن هنا يجب أن نشير إلى التناقض المركب والمعقد الكامن في فكرة التلقائية والأتمتة نفسها والذي يتحدث عنه «جيل دولوز» إذ يلحظ في السلوك الأوتوماتيكي لموديلات بريسون تحولاً ملغزًا: «إعادة الإنتاج الآلية غير الواعية للكلمات والإيماءات التي يمليها عليهم الصانع [بريسون] تبثّ فيهم حقيقتهم الداخلية، وتكسبهم حقيقة لا يدركونها»12. يعتقد دولوز إذن أن التلقائية تُنتج على نحو معضل نوعًا من الاستقلالية والفاعلية، وهو ما يتقارب في المعنى بعض الشيء مع ما كتبه المخرج بنفسه: «الموديل: أنت تملي عليه حركات وكلمات، وهو يعطيك بالمقابل "ماهية"13». هكذا عبْر الأداء المقيّد وطريقة الإلقاء الرتيبة والنظامية والعواطف المكبوتة عمدًا، يحجب بريسون الدافع النفسي لأبطاله عن المُشاهد، في تحرر من الوسائل المسرحية والهوليوودية كذلك، وفي تقديم أولوي للصوت والصورة. ويؤكد «أندريه بازان» ذلك عندما قال: «بريسون ليس معنيًا بالسيكولوچية، بل بفسيولوچية الوجود».

خير الصور ما قلَّ ودلَّ، خير الصور ما لا يحيل ولا يشير

تملك أفلام بريسون هوية بصرية متفردة. لا نجد في أفلامه أي أبجديات أو مفردات بصرية شائعة. لا وجود لأسلوب اللقطة واللقطة العكسيّة (shot - reverse shot)، لا تغطية للمشهد من أكثر من زاوية. دقة متناهية ورؤية محددة للمشهد. هاجس الكمال يلازمه كظله14، بل إنه موضوعة تتكرر كثيرًا في أفلامه: نراها مثلاً في استعدادات «فونتاين» للهروب من السجن في فيلم «هروب سجين محكوم عليه بالإعدام»15 ونراها أيضًا في التدريبات الدؤوب للنشال في فيلمه «النشال»16. يرينا بريسون فقط ما يريدنا أن نراه، ما نحتاج أن نراه. وهو الذي يكتب: «عندما يكون كَمانٌ واحدٌ كافيًا، فلا داعي لاستخدام اثنين»17. هوذا التقشف الفني الذي قصده تاركوفسكي، أو «الفقر» كما يحب بريسون أن يطلق عليه. اقتصاد في كل عناصر الصورة، لأنه لا مجال إلا للحقيقة. وكأنه يستعير عبارة الرسام الانطباعي الشهير «بول سيزان» -أحد أكبر المؤثرين فيه- عندما قال: «أنا مدين لكم بالحقيقة في فن الرسم، وسأقولها لكم»18. مثل بريسون، سيزان مهموم بالحقيقة وكيفية التقاطها، بل ويراها دَينًا يجب عليه سداده. وقد يساعدنا سيزان هنا في فهمٍ أعمق لأسلوب بريسون.

كيف يحاول سيزان أن يقول الحقيقة أو الحق في الرسم19؟

كتب سيزان: «تتغلغل الأشياء في بعضها البعض، ولا تتوقف عن الحياة. [...] هذه الكؤوس، هذه الأطباق، إنها تتحدث إلى بعضها البعض»20. بالمقابل كتب بريسون: «ليكن الاتحاد الحميم بين الصور هو الذي يشحنها بالانفعال»21.

بدأ بريسون في صباه رسامًا، ولطالما رأى أن سيزان يمثّل الأفق النهائي لما يمكن أن يحققه فن الرسم، ولذلك لم يشتغل به. نرى في الرؤية الفنية عند كليهما تقاربًا كبيرًا: البساطة التامة، السير عكس الاتجاه الفني السائد في عصريهما، والأهم هو ذلك السعي الحثيث نحو وحدة بنيوية تروم تحويل الأجزاء المتفرقة إلى كلٍّ متوحّد يتسامى ويتعالى، رغبةً في لمس الحقيقة المطلقة، وهي رؤية يمكن أن نجذِّرها في الرؤى «الوحدوية» كما توجد في التصوّف أو الفلسفة22. ثمة عاملان رئيسان يتآزران في تحقيق هذه الوحدة البنيوية: الوجود «الحسيّ» الكلي للأشياء أو كما يقول «هوسرل»: «العودة إلى الأشياء عينها»23 أي كما يوضّح: «ندركها هي بصفتها الموجود المطلق الذي هي إياه»، ومن ثَمَّ نشوب تفاعل متواصل بين كل الملكات الحسية لهذه الأشياء. وماذا يعني أن «نرى» عند بريسون وسيزان؟ تعنى الرؤية عندهما النفاذ إلى الحقيقة المطلقة. كيف يتحقق ذلك؟ عبر تجريد أعمالهما من كل ما هو شكلاني وغير ضروري بُغية الكشف عن الجوهر الأصلي أو المعنى الأعمق: الحقيقة. لدينا، في التراث العربي، ما قد يساعدنا في فهم كل هذا عبر القصيدة:

«رقَّ الزجاجُ وَرَقَّت الخمرُ

وَتشابها فَتَشاكل الأَمرُ

فَكَأَنَّما خمرٌ وَلا قَدحٌ

وَكَأَنَّما قَدحٌ وَلا خمرُ»24

وها هو بريسون يكتب قائلًا: «صُوَري أملِّسها كما لو بمكواة، من دون أن أخفف منها».

يمكننا إذن أن نقول بقلب شبه مطمئن إن بريسون حاول ترجمة المذهب الانطباعي وتحديدًا رؤية سيزان في الرسم إلى الصورة في أفلامه. ونعود هنا إلى تعريف بريسون للسينماتوغراف: «كتابة بالصور في حركتها، وبالأصوات»25. ومما أوضحناه فإن هذه الصور تكتسب قيمتها من علاقتها وترتيبها بين الصور الأخرى26، فالصورة المفردة عند بريسون تقريرية وشبه إخبارية لا تحيل ولا تشير، كما قال هو نفسه: «إذا ما عبّرت الصورة، المنظور إليها بمعزل عما حولها، بدقة عن شيء ما. إذا ما انطوت على تأويل ما، فإنها لن تتحول عند التقائها بصور أخرى»27. لكننا، عند هذه المرحلة، لا بد لنا وأن نتساءل: كيف يتحدد هذا الترتيب، ما هي هذه العلاقة التي تربط صورة ما بما يسبقها وما يليها من صور؟ إنها السببية. السببية الصماء خلال أحداث الفيلم، حيثُ لا مجال للتشويق؛ هناك فقط مجال للحقيقة. كل مشهد يقود إلى التالي، لا توجد مفاجآت، ويتجلى هذا حتّى في الحرفيّة والتقريرية الشديدة التي يسمي بها أفلامه: كما في عنوان فيلمه «هروب سجين محكوم عليه بالإعدام» (1956).

المساحة البريسونية

تأطير بريسون وحركة كاميراه بسيطان للغاية: الكاميرا ثابتة معظم الوقت، غالبًا ما تكون على مستوى العين، أو موضوعة في المكان الذي ينقل الحدث كما تراه العين المجردة دون تلميع أو زخرفة، وهنا عودة إلى المذهب الانطباعي مرة أخرى. غير أن ثمة ما يميز تأطير بريسون بخصوصية شديدة، ألا وهو عدم وجود مساحات كاملة في أفلامه، بالإضافة إلى أنه غالبًا ما يكون هناك فراغ في كادراته. لغة بريسون البصرية لغة تجزئة وحذف بامتياز، فالمساحات في أفلام بريسون -كما يقول دولوز في إحدى محاضراته ويطلق عليها اسم المساحة البريسونية (Bressonian Space)- متقطعة ومنفصلة تحتاج إلى ما يربطها، وكما يشرح: «مثلاً يُرينا بريسون ركنًا من حائط ما، ثم يرينا جزءًا آخر من نفس الحائط»28. وماذا يربط هذه المساحات (البريسونية) المنفصلة ببعضها؟ الأيدي. تدخل الأيدي هنا الحوار باعتبارها أحد أكثر ما يميز أفلام بريسون من الناحية الجمالية، وهو ليس دخولاً اعتباطيًا، بل له ما يبرره ويفسره. لماذا الأيدي تحديدًا؟ هنا يقترح بريسون أن الأيدي هي منفذ الإرادة عمومًا والإرادة الإلهية خصوصًا، إنها الفاعل، وهي السببُ بإطلاق، وفي هذا تأكيد على السببية في أفلامه مرة ثانية. تدخل الأيدي إلى كادرات بريسون عبر المساحات الخالية لتربط هذه المساحات المجزأة ببعضها. لقطات قريبة وحميمية لأيدٍ تلمس أشياء جامدة، مما يضاعف الحسيّة الشديدة التي تحدثنا عنها، على نحو يقف حتى على شفا الإيروسية.

الصوت بوصفه أداة سردية

يمثل الصوت بصفة عامة اللبنة الثانية التي تقوم عليها الأفلام، بجانب الصورة بالطبع، عدا أنه غالبًا ما يأتي تابعًا مكملاً للصورة لا مستقلاً عنها، بَيد أن بريسون يرى في الصوت مكافئًا ومساويًا للصورة. ولنعد لتعريفه السابق ذكره للسينماتوغراف: «كتابة بالصور في حركتها، وبالأصوات»، وفي مدوناته كذلك: «ليس على الصورة والصوت أن يتآزرا، بل أن يعملا، كلٌّ بدوره، بما يشبه التناوب»، «ما هو للعين يجب ألا يكون له استخدام مزدوج مع ما هو للأذن». وفي شذرة دالّة: «إنها [أي السينماتوغرافيا] كتابةُ أو رسمُ الغدِ، بنوعين من الحبر: واحدٍ للعين، وآخرَ للأذن». إنما كيف يمكن للصوت أن يملك كل هذه القيمة داخل فن بصري بامتياز؟

يوظف بريسون الصوت لإضفاء إيقاع عضوي إلى الفيلم، فنسمع صرير الباب ودبيب الأقدام واحتكاك الزجاج المكسور مع الأرض. يمثّل الصوت هنا الموسيقى الداخلية للفيلم؛ لا حاجة لموسيقى خارجية دونه: «لا داعي لموسيقى مرافقة أو داعمة. لا داعي لموسيقى البتة. الأصوات هي الموسيقى»29. ولا يكتسب الصوت قيمته الإيقاعية من وجوده فقط، بل ومن انعدامه كذلك: «السينما الناطقة ألّفت الصمت»30. إذن، فالصوت يلعب دورًا سرديًا محوريًا في أفلام الرجل، لدرجة أنه قد يستعيض به عن الصورة. في فيلم «هروب سجين محكوم عليه بالإعدام» مثلاً، لا يرينا حدثًا مهمًا كإعدام السجناء الآخرين، لأننا لا نحتاج أن نراه؛ تكفي الإشارة له بالصوت. كما يضعنا هذا التوظيف المبدع للصوت داخل الزنزانة مع فونتاين ويقربنا من حالته النفسية: إذ لا يرى الإعدام، بل يسمع صوت الرصاص من داخل زنزانته. علاوة على ذلك، يُطلِق هذا التوظيف المبدع للصوت عنان الخيال عند الجمهور: «الأذن أكثر إبداعًا من العين. إذا كان بإمكاني [استخدام الصوت بديلاً عن لقطة ما]، فإنني أفضل الصوت، وهذا يمنح الحرية لخيال الجمهور. تساعد هذه الظاهرة على اقتراح الأشياء بدلاً من الاضطرار إلى إظهارها»، كما دوّن.

هل ثمة من تواشج بين الأسلوب والمضمون؟

تلقائية وجمود في أداء الموديلات، مساحات منفصلة تستضيف ثنائية الحسية والتقشف، ندرة في استخدام الموسيقى الخارجية والاكتفاء بإيحاءات الصمت أو إيقاعات الضوضاء. لماذا كل هذه البرودة وكل هذا الإحكام في استخدام كل العناصر والأدوات؟ يحرص بريسون على التأكيد على المسافة بين المشاهد والفيلم، يحيّدنا عن الانخراط الشعوري، يحثنا على التأمل عبر تقديم الوسيط أو الأسلوب على المضمون. لا يريدنا أن ننسى أننا نشاهد فيلمًا، ويريدنا أن نعي دائمًا بأننا نرى وأن نحاول الرؤية بالمعنى الكامل للكلمة، أي نحاول الوصول إلى الحقيقة في ما نراه. تقول «سوزان سونتاغ» في مقالها عن بريسون: «في الفن التأملي، يكون شكل العمل الفني حاضرًا بشكل بارز»31، وتُردف الفكرة بقولها: «الوعي بالشكل الفني يؤدي إلى شيئين في آن واحد: يعطي متعة حسية مستقلة عن المضمون، ويدعو كذلك إلى التفكير»32. تعتقد سونتاغ أن بريسون هو أعظم «مخرج» على الإطلاق، وترى إنجازه الأعظم في صياغته النهائية لأسلوب يتوافق ويعبر على نحو مثالي عما يريد أن يقوله، وبالأحرى هذا الأسلوب هو بالذات ما يحاول بريسون أن يقوله. بل وتعتقد سونتاغ أن بريسون جاوز فكرة الأسلوب وتمكن من صياغة لغة سينماتوغرافية توازي اللغة المكتوبة يستطيع من خلالها التعبير عن أي فكرة مهما كانت مجردة أو مركبة: «يجب أن يجسد الأسلوب الفكرة» حسْبَ بريسون. تبلورت مفردات هذه اللغة على نحو كامل بعد أول فيلمين، وهما الفيلمان اللذان نزعا إلى درامية مكثفة تتدفق عبر الحوارات بين الشخصيات. استبدل بريسون بالحوار المكثف أسلوبَ الراوي من منظور الشخصية الرئيسة أو الراوي بضمير المتكلم. ولا يخبرنا الراوي بأي شيء لا نعلمه، بل يحكي ويكرر على مسامعنا ما نراه بالفعل. يكبح هذا الأسلوب السردي مشاركة المشاهد بخياله، ويدعوه للتأمل فيما يراه.

الدراما في أفلام بريسون

تتضمن الدراما عمومًا وجود صراع ما، والدراما في أفلام بريسون هي صراع الشخصيات الداخلي في سعيها نحو الحرية بوصفها أفقًا نهائيًا لما يمكن أن يحتمله وجودهم. تتضمن أفلام بريسون دائمًا ثنائيات: الخير والشر، الأمل واليأس، الإرادة والتقاعس، والثنائية الأهم: السجن والحرية. نرى ثنائية السجن والحرية مباشَرة في فيلم «هروب سجين محكوم عليه بالإعدام»، ولكن يتغلغل فيها الصراع بين الإرادة والأمل في مواظبة فونتاين على العمل على خطته للهروب وفي صقل الأدوات التي ستساعده من جهة، واليأس والتقاعس في الاستسلام لمصير الموت المحتوم من جهة ثانية. وفي فيلم «النشال» نشاهد مجرمًا شابًا لا يملك أي مرجعية أخلاقية مثل «راسكولينكوف»33، ولا يتحرر هذا النشال إلا عندما يُسجن، إذ حين يتحدث إلى الفتاة التي يحبها من خلف القضبان، يدرك -وندرك معه- أنه قادر على الحب، والقدرة على الحب هنا تمثّل تحررًا من حياة منعدمة المعنى وغير أخلاقية.

كأزهار في الماء

الفن في جوهره مقاومة، مقاومة لفنائنا المحتوم. هو ملاذنا الوحيد لمقاومة مرارة العجز، وإمكانية أن يتجاوز الإنسان نفسه ويتسامى إلى مقام أعلى. حتى «شوبنهاور» فيلسوف التشاؤم القائل بأن «الحياة مثل البندول تتأرجح بين الألم والملل» 34 يرى في الفن «ضربًا من العزاء الجمالي»35. نرى عند بريسون هذه المقاومة على عدة مستويات: مقاومته هو نفسُه للسائد كما لو أنه يرفع الشعار الذي صكّه محمود درويش: «إذا ما أردتَ الوصول لنفسك الجامحة/ فلا تسلك الطرق الواضحة»، كما تقاوم أفلامه اليأس والسجن سعيًا نحو الحرية، وحتى الفن نفسه يقاوم الموت أثناء عملية الخلق كما دوّن مرةً: «في الميتتين والولادات الثلاث. فيلمي يولد مرة أولى في رأسي، يموت على الورقة، ليُبعث في الأشخاص الأحياء وفي الأشياء الحقيقية التي أستخدمها، وهم الذين يُقتلون عندما يُسجلون على شريط، لكنهم كأزهار في الماء تعود إليهم الحياة عندما يوضعون فوق نظام ما ويعرضون على الشاشة»، كما يقاوم فن السينماتوغراف فناءَهُ بالمعنى الأعم والأشمل للكلمة: «لا زواج بين المسرح والسينماتوغراف من دون إفناء لكليهما». مشروع بريسون كله مقاومة، مقاومة تُستمد من جوهر الفن عمومًا حيث مقاومة الفناء والألم، كما تُستمد من خاصيّة الفن السينماتوغرافي بذاتها حيث التمرد والخلق الجديد، وكذلك تُستمد من طموحات بريسون نفسه في إيجاد لغة «سينماتوغرافيّة» متحررة من الوسائل المسرحية، ومن ثمَّ إيجاد أسلوبه الخاص والمميز.

ربما يمكننا أن نستعيض عن كل هذه الأسئلة الموجودة في المقدمة بسؤال: من هو الفنان؟ أو بالأحرى ما هو المقام الذي تقف عنده كينونة الفنان؟ الفنان هو فكرة ناظمة ونسقية لاستعمال كل ملكات الوجدان الإنساني بحسيّته الشديدة وروحانيته المرهفة على نحو كلي ومطلق. امتلك بريسون رؤية نظرية ناظمة لإمكانات فن السينماتوغراف، بحث فيها عن المعنى الضائع أو عن الخاصية التي قد يتمايز بها عن غيره من الفنون. ولم تتبلور هذه الرؤية كاملة منذ البداية، بل أخذت تتطور وتتكشف حتى استقر على لغته التي اعتمدها منذ ثالث أفلامه. أثّرت هذه الرؤية النظرية في أسلوبه أشد التأثير، وتواشج أسلوبه مع المضمون حد التماهي كما قصد هو إلى ذلك. أسلوب اعتنق الحسيّة مذهبًا وأغرق فيها لينفذ عبرها إلى الترانسندنتالي. أسلوب تبنى الزهد التامّ حتى يُنقِّب عن الحقيقي والمطلق. يتضح لنا، في المحصلة النهائية، أن التنظير ليس محض نزهة عقلية، وإلا كيف نفسر اهتمام ثلة من الأسماء المؤسّسة به مثل بريسون وتاركوفسكي وسيرجي آيزنشتاين؟ إذن، ما أحوَجنا إلى منظرين حقيقيينَ في سينمانا العربية!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

1.المصدر
2. How Bresson creates profound emotion from small moments
3.Voyage in Time. Youtube.
4.الترنسندنتالية هي تجاوز ما يمكن إدراكه عبر الحواس إلى حالة روحانية مفارقة. وهي كذلك مفهوم مؤسس في فلسفة إيمانويل كانط: (المثالية المتعالية) أو (Transcendental Idealism).
5.(مدونات حول السينماتوغراف) ترجمة الأستاذين د/ محمود أمهز - د/ فادي اسطفان، صفحة 40.
النحت في الزمن، أندريه تاركوفسكي، ترجمة أمين صالح-المؤسسة العربية للدراسات والنشر-6.2006.
المترجمين «سينماتوغراف» بدلًا من الصيغة السائدة «سينماتوغرافيا»؛ وذلك للتفريق بين المفهوم المتعارف عليه والمفهوم الخاص بـ بريسون. مدونات حول السينماتوغراف، روبير بريسون، ترجمة محمود 7. أمهز وفادي أسطفان-دار الجديد- 2011. ونشير إلى اعتمادنا على صيغة
انظر (مدونات حول السينماتوغراف)، صفحة 8.14.
انظر المصدر نفسه، صفحة 9.13.
انظر المصدر نفسه، صفحة 10.12.
انظر المصدر نفسه، صفحة 11.28.
12.Jacques Rancière (tr. Emiliano Battista), Film Fables, Bloomsbury, 2016. p.13.
بريسون؛ المصدر نفسه، صفحة 13.33.
14.انظر قوله، مثلًا: «سأدقق في العمل، سأكون آلة الدقة».
15.(Un condamné à mort s’est échappé) 1956.
16.(Pickpocket) 1959.
بريسون؛ المصدر نفسه، صفحة 17.23.
رسالة من بول سيزان إلى إيميل برنار بتاريخ 23 أكتوبر 18.1905.
19.«الحق في الرسم»: عنوان أحد كتب «جاك دريدا» التي يناقش فيها نقطة الحقيقة في الرسم.
20.Moment of Grace: The films of Robert Bresson
بريسون؛ المصدر نفسه، صفحة 21.29.
22.انظر «ابن عربي» و«سبينوزا» مثالين.
23.(Back to the things themselves) هو مبدأ هوسرل في فلسفته الظاهراتية
24.هذه الأبيات متنازع على نسبتها إما للسهروردي المقتول أو للصاحب بن عباد، بل وتنسب عند البعض إلى أبي نواس.
بريسون؛ المصدر نفسه، صفحة 25.12.
26.انظر قوله: «الصور في السينماتوغراف ككلمات قاموس. لا سلطة لها ولا قيمة إلا في في موقعها وعلاقاتها ببعضها البعض».
27.انظر قوله، في موضع آخر: «أعمل بجد على صور لا قيمة لها (غير ذات معنى)» ثم فكّر فيها.
28. YouTube من محاضرة دولوز «ما هو العمل الإبداعي؟»، موجودة على يوتيوب:
بريسون؛ المصدر نفسه، صفحة 29.26.
30.في موضع آخر: «تأكد من أنك استنفدت إمكانات السكون والصمت».
31.من مقالة سوزان سونتاغ: Spiritual Style in the films of Robert Bresson
32.انظر المصدر السابق نفسه.
33.بطل رواية فيودور دوستويفسكي «الجريمة والعقاب».
34.انظر كتاب «العالم كإرادة وتصور».
35.انظر المصدر السابق نفسه.
أ. محمد مصطفى
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا