مقالات

رحلة السريالية إلى السينما: كيف انتقلت السريالية بصورتها الفنية إلى الصورة السينمائية؟

في أوج إشراق شمس القرن العشرين، تفتحت أبواب الخيال واتسعت لعقولنا أفق الغموض وذلك من خلال رحلة فريدة بدأت من الورق واللوحات الثابتة إلى لوحات السينما المتحركة، وقد أدت رحلة انتقال الصورة السريالية التشكيلية إلى عالم السينما الذي يضخ بالرموز وينبض بالخيال إلى لقاءٍ حارٍ بين فرشاة الفنان وعدسة المخرج، وفي هذه المقالة سوف نبحر في كيفية تراقُص الألوان والرموز على اللوحات السريالية وكيفية انتقالها بكل جرأة إلى اللوحات السينمائية وتأرجُحها بين الضوء والظلام، والواقع والخيال، والحلم والحقيقة.

إن الجمع بين السريالية والسينما أمر شيّق، فهو يستكشف ويستحضر ما يكمن في اللاوعي والخيال، مما أسهم في تطوير لغة سينمائية جديدة وملهمة، وتحت عنوان «العظماء الشفافون» فسّر بريتون نظرة السريالية للإنسان، فكتب: «ربما لا يكون الإنسان هو مركز الكون، يمكن للمرء أن يعتقد بوجود كائنات فوقه، ولا شك أن هناك مجالاً واسعًا للتأمل هنا، فهذه الفكرة تميل إلى وضع الإنسان في نفس الظروف المتواضعة لتفسير عالمه الخاص مثل الطفل الذي يسره أن يشكل تصوره عن النملة من جانبها السفلي فقط».(3)

وفي بداية ظهور الحركة السريالية فشل عديد من النقاد في التعرف على الصفات المميزة التي تشكل الموقف السريالي، فكانوا يبحثون عن نوع معين من الموضوعات والصور التي تحمل مفاهيمَ معينة على أنها سريالية، وذلك من أجل توفير معيارٍ للحكم الذي يمكنهم من تقييم الفيلم أو العمل الفني، وكانت المشكلة في تحديد نوع صفات السريالية في العمل الفني في أن ذلك يتعارض مع جوهر السريالية، والسريالية عالمٌ حر يرفض أن تكون له صفات محددة تحكمه، والسريالية لدى السرياليين هي ليست شيئًا، بل علاقة بين الأشياء.

الحركة السريالية

ظهرت السريالية في نهاية الحرب العالمية الأولى في فرنسا عام 1920، تحت تأثير التغيرات الاجتماعية التي صنعتها الحرب، وكانت تلك الفترة هي فترة اكتشاف وفوران فكري ساهمت بها الحركات الفنية الجديدة(1)، وكان للحركة السريالية أفكارٌ متمردة أحدثت أثرًا قويًا في الأدب والنحت والتصوير، وأيضًا في السينما، في ثورة على المنطق السائد والمألوف المعتاد.

وقد دعت السريالية للتخلص من سيطرةِ ديكتاتوريةِ العقل الواعي ورسائله المنطقية الثابتة، وكان مؤسس هذه الحركة هو أندريه بريتون André Breton المتحدث الرسمي للسريالية، وتأثرت هذه الحركة بعلم النفس الفرويدي، فنرى السرياليين يندفعون إلى عالم اللاشعور والأحلام والرموز خارجين عن الإطار الأخلاقي والمفاهيم التقليدية والقيم الجمالية السائدة. (1)

واتجه السرياليون للتعبير عن خواطر النفس البشرية بعفويتها وفطرتها بعيدًا عن سيطرة العقل الواعي، وكانت لديهم رؤية حول الآداب والفنون على أنها عبّرت عن حياة الإنسان الخارجية على نحو كافٍ، وأن الوقت حان للتعبير عما بداخل عقل الإنسان اللاواعي والحياة الغامضة الداخلية، والماضي البعيد، وذكريات طفولته وحياته النفسية برؤيا فطرية متحررة من ديكتاتورية الوعي. (1)

وقد كان السرياليون -وما زالوا- لا يهتمون باستحضار عالم سحري يمكن تعريفه بأنه سريالي، بل انصب اهتمامهم على استكشاف نقاط الاتصال للعواطف التي ينقلها العمل السريالي بين عوالم الوجود المختلفة، فإن السريالية تدور دائمًا حول المغادرين وليس الوصول. 

من أبرز الفنانين التشكيليين السرياليين

سلفادور دالي Salvador Dali:

يُعتبر دالي من أهم فناني القرن العشرين، وهو أحد أعلام المدرسة السريالية. تميّز دالي بأعماله الفنية التي تصدم المُشاهد بموضوعها وتشكيلاتها وغرابتها، وكذلك بشخصيته وكتاباته غير المألوفة والتي تصل إلى حد اللامعقول والاضطراب النفسي. تعرّف دالي في باريس إلى الشاعر والطبيب النفسي أندريه بريتون والذي كان قد نظّم في عام 1924 «البيان الأول» الذي يُعتبر بمثابة الرسالة التأسيسية للسريالية.

وفي عام 1928 كتب دالي في باريس سيناريو فيلم «كلب أندلسي» والذي أخرجه المخرج الإسباني لويس بونيويل، وفي عام 1930 كان الفيلم الثاني لدالي وهو بعنوان «العصر الذهبي» والذي يتميز أيضًا بعدم إمكانية تفسيره تفسيرًا عقلانيًا، وهو كذلك من إخراج بونيويل. (1)

جورجيو دي شيريكو Giorgio De Chirico:

هو رسام سريالي ومؤسس حركة الفن الميتافيزيقية، اشتُهر برسم لوحات من الساحات المليئة بالشخصيات الطيفية والظلال، وحياكة وجهات نظر مشوهة عن قصد، ورسم أرض مائلة. يسيطر على لوحاته الجو الحزين، والأحلام الخانقة، والخطر المزعج، وكان أحد ابتكارات دي شيريكو العظيمة هو التزاوج بين هذه العناصر المعمارية الكلاسيكية الغامضة مع اللغة التصويرية، والتي تتمثل في الهياكل المكانية المسطحة، والأشكال المخففة إلى مستويات جريئة وبسيطة، والسمة المميزة لأسلوبه كانت في اقترانه للأنظمة المكانية غير المتوافقة في مشهد واحد متماسك. (1)

رينيه فرانسوا غزلان ماغريت Magritte:

كان رينيه فنانًا سرياليًا بلجيكيًا، وأصبح مشهورًا نظرًا لأعماله الفنية المتمثلة في عدد من الصور الذكية والمثيرة للتفكير، حيث اشتُهر بلوحاته السريالية التي تُوضَع جنبًا إلى جنب مع أشياء لا علاقة لها ببعضها، وعمله «ابن الإنسان» هو أحد أشهر أعماله حول رجل تعمّ على وجهه تفاحة خضراء، وكان هذا النمط من مزج الأشياء البسيطة في سياقات غير عادية واضحًا بالفعل في أول عرض فردي لماغريت في بروكسل عام 1927، وكثيرًا ما يُشار إلى عمله باسم الواقعية السحرية، وهو نوع واقعي من حيث رسم الشكل، ولكنه يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالسريالية. (1)

ما سر انجذاب السرياليين إلى السينما؟

رأى الشاعر السريالي ديسنوس أن الأفلام تجربة مماثلة للأحلام، ومما ذكره حول الأفلام: «كانت الأفلام حافزًا خارجيًا للخيال، وقدمت طريقة لتجاوز الواقع وأطلقت المشاهد في الإثارة والمغامرة، وأصبحت مصدرًا للحب الحديث»(2).

وقدّم الحلم كثيرًا للسرياليين، وبالنسبة إليهم لم يكن اللاوعي يحتوي ببساطة على مخلفات الحياة اليومية، ولم يكن مجالاً للذاكرة المكبوتة، ومع كل اهتمامهم بفرويد، كان الحلم ساحة للتجربة المجهولة، وكانت موجودة داخل الفرد، وبقدر ما تم توفير بيئة مماثلة لحالة الحلم، فقد أصبحت السينما مساوية للحلم.

وأدرك الفنانون السرياليون أن كاميرا الفيلم يمكنها التقاط العالم الحقيقي بطريقة تشبه الحلم، وهو أمر لا تستطيع أقلامهم وفرشاة الرسم الخاصة بهم التعبيرَ عنه، وذلك عن طريق تقنيات الوسيط السينمائي من التراكب، والتعرض المفرط، والحركة السريعة، والحركة البطيئة، والحركة العكسية، والتوقف عن الحركة، ومصابيح العدسة، وعمق المجال الكبير، وعمق المجال الضحل، ومزيد من حِيَل الكاميرا الغريبة التي يمكن أن تحوّل الصورة الأصلية أمام العدسة إلى شيء جديد بمجرد عرضه على لوحة الفيلم. (1)

وبالنسبة إلى السرياليين فقد منحهم الفيلم القدرة على التحدي وتشكيل الحدود بين الخيال والواقع، خصوصًا مع المكان والزمان مثل الأحلام التي كانوا يرغبون في تحقيقها، فلم يكن للفيلم حدود أو قواعد، ومنذ البداية اتجه السرياليون إلى المجال السينمائي بحثًا عن حقل جديد لممارسة تجاربهم الخاصة ومحاولة نقل أفكارهم ومعتقداتهم.

ومن خلال تجارب السرياليين المتنوعة، وذلك باستخدام تصورهم وصنعهم لإمكانات جديدة ومبتكرة، فقد ساهموا على نطاق واسع في تطوير السرد البصري في القرن العشرين، وأصبح انشغال السرياليين الشديد بالوسيلة السينمائية أمرًا مهمًا جعل الكاتب ستيفن كوفاكس يعتبر السريالية أول حركة أدبية وفنية تهتم جديًا بالسينما. 

كيف نشأت السينما السريالية؟

بحلول عشرينيات القرن العشرين ظهرت السريالية بوصفها مجموعة منظمة، وظهرت السينما ووصلت إلى نهاية مرحلتها البدائية، والعلاقة بين السينما المبكرة والحركة السريالية هي علاقة بالغة في الأهمية، ليس فقط بالنسبة إلى الحركة، ولكن أيضًا إلى تأثيرها الأوسع في الفنون البصرية الأخرى، فقد تناولت التجارب السريالية جميع مجالات الصورة مثل: التصوير الفوتوغرافي، والرسم، والأفلام، والصورة المكتوبة والتي تعتبر مهمة لأنها أثّرت على نطاق واسع في الإدراك البشري للفن والواقع.

وفي نهاية ثلاثينيات القرن العشرين، أدّى وصول الصوت للسينما إلى موجة إحباط بالنسبة إلى معظم السرياليين الذين اعتبروه خطرًا على تطور اللغة البصرية، وكان ارتفاع تكاليف الإنتاج، والرفض المتكرر لنصوصهم، ورحيل الأعضاء المهمين المشاركين في صناعة الأفلام مثل: أنطونين أرتو، لويس بونيويل، سلفادور دالي، جورج هوجنيت، فالنتين هوغو. (2)

وقد انتهى بهم الأمر إلى تضاؤل اهتمامهم بكتابة النصوص أو صناعة الأفلام، وفي فترة ما بعد الحرب، على الرغم من أن السريالية كانت حركة، فقد ظلت تحظى باهتمام الرأي العام.

كيف توافقت السريالية مع السينما؟

حاول الشاعر والكاتب سوبولت شرح ذلك الانجذاب إلى عالم السينما بقوله: « لقد كانت السينما بالنسبة إلينا اكتشافًا هائلًا في الوقت الذي كنا نعمل فيه على تطوير السريالية، ثم اعتبرنا الفيلم وسيلة رائعة للتعبير عن الأحلام، اعتقدنا أن الفيلم سيقترح إمكانات غير عادية للتعبير عن الأحلام وتغييرها وتحقيقها، ويمكن للمرء أن يقول إننا منذ ولادة السريالية، سعينا إلى اكتشاف وسائل التعبير عن القوة الهائلة للحلم، بفضل السينما».(2).

وأشار بعض السينمائيين إلى أن السينما جوهر سريالي، لأنها تُعبّر عن المحتوى المستمر للحياة وهو «الحلم»، فإن السريالية أكثر منهج ملائم للطبيعة السينمائية، وذلك لأنها تعتمد على التحليل النفسي والعقل الباطن، ولما كانت السينما وسيطًا ملائمًا للأفكار السريالية فقد حملت بعض أفلامها هذه التأثيرات.

وارتباط الأفلام السريالية بالحلم يتطلب قدرًا كبيرًا من الحرفية السينمائية حيث يعكس التشكيل البصري لهذه الأفلام أفكارًا غاية في التعقيد، ومثل هذه الموضوعات تتطلب قدرًا كبيرًا من البناء الفكري للصورة السينمائية، لا سيما إذا ابتعدت السينما عن التعبير القصصي المباشر للأفكار والأحداث، فيكون الحضور للبناء المرئي والتشكيل الذي يجعل من اللقطة قوة ناطقة بالأفكار والأحداث والأفعال. (1)

ويعود التوافق بين ملامح التشكيل بالأسلوب السريالي في صورته الفنية والصورة السينمائية السريالية من خلال اشتراكهما في أسلوب الغرابة أو الخروج عن المألوف، حيث نهج الفنانون التشكيليون السرياليون أسلوب التغريب، وذلك من خلال نقل الأشياء من بيئتها الطبيعية المألوفة إلى بيئة ومكان غريب عنها، محدثين صدمة مرعبة أو رؤية جديدة للمشاهد، مسقطين احتمالات عديدة، ومحوّلين تلك الأشياء أو الكائنات إلى رموز لها عدة تفسيرات تختلف طبقًا للمخزون الثقافي والنفسي لكل مُشاهد للوحة، وانتقل بالتأكيد هذا الأسلوب إلى السينما. (1)

كيف ألهمت الأعمال السريالية السينما السريالية؟

أثّر السرياليون بعمق في مجال الأفلام التجارية من خلال أعمال لويس بونيويل، ولاحقًا من خلال مخرجين آخرين مثل: يان شفانكماير، ونيللي كابلان، وأندريه ديلوفو، وساهم استكشافهم المستمر للموضوعات والتقنيات المرتبطة بشكل أو بآخر بالسريالية في تعريف عامة الناس بالطرق غير التقليدية لتمثيل الواقع. 

وأثر الفنانون السرياليون بأعمالهم التشكيلية عن طريق تكوين مناظر فنية سريالية استلهم منها المخرجون في أعمالهم السينمائية، مثل الفنان السريالي جورجيو دي شيريكو، والفنان السريالي رينيه ماغريت.

فيلم «كلب أندلسي» (1929)

كتب المخرج الإسباني لويس بونيويل، والذي كان أول مَن قدّم عملاً للسينما السريالية، نص الفيلم بالمشاركة مع الفنان التشكيلي السريالي سلفادور دالي، وذلك بعد عدة تجارب من الأحلام والتخيلات، وجاء الفيلم في مجموعة من الصور المتتابعة وغير المشروحة.

وكان العنصر الوحيد الذى يجمعها هو قدرتها على إحداث الصدمة لدى الجمهور، مثل مشهد مقلة العين المقطعة في بداية الفيلم حيث يشُقّ لويس بونيويل عينَ امرأة دون أن تبدي أي اعتراض، وهي الصورة التي سببت صدمة كبيرة لدى الجمهور، وقد تلقى هذا الفيلم ترحيبًا من النقاد فيما رفضه الجمهور وثار عليه لِما به من صور غريبة. (1)

ورغم احتواء الفيلم على جانب واقعي مثل شوارع باريس، والشقة والشاطئ، فإن كل هذه المَشاهد كانت بمثابة الخلفية العقلية التي وضعت أمامها العناصر غير المألوفة، مثل اليد المقطوعة، والحمير الموتى، واليد المملوءة بالنمل، وقد كانت هذه اليد من لوحات لسلفادور دالي، وبعد كل هذه اللقطات والصدمات يتولد لدينا شعور عام بالكابوس. (1)

فيلم «العصر الذهبي» (1930) 

أخرج لويس بونيويل نموذجه السريالي الثاني وهو فيلم «العصر الذهبي»، الفيلم الذي وضع فيه عديدًا من الأسس التي أصبحت من مميزات أسلوب عمله الإخراجي، وقد بدأ هذا الفيلم في إيضاح أهم معالم الفكر الخاص به، مثل هجومه على الكنيسة والمعتقدات الدينية والأخلاقية التي برزت بقوة في هذا الفيلم، وساهم دالي في إعداد سيناريو هذا الفيلم كذلك ولكن بنسبة أقل كثيرًا من سابقه.

ويُعتبر هذا الفيلم أكثر نضجًا وميلاً للأفكار السريالية، ويُعدّ نموذجًا لتجسيد الأفكار السريالية على شاشة السينما، كما أن سلفادور دالي قد انجذب إلى السينما بوصفها وسيطًا فنيًا جديدًا أتاح له فرصة عرض أفكاره وأسلوبه من خلال تعاونه مع المخرج، وهو ما يعد تأثيرًا متبادلاً بينهما وبين الوسيطين السينمائي والتشكيلي، حيث الحلم هو مصدر الاستلهام في كلٍ من اللوحة والكادر. (1)

فيلم «مدهش» (1945)

في عام 1944 ، اختار المخرج ألفريد هيتشكوك الفنان سلفادور دالي لتصميم الكابوس في فيلمه، وكان السياق الفرويدي والتحليل النفسي متسقًا مع أيقونات دالي حيث ينتقل مشهد الحلم إلى جو من الظلام وعدم الاستقرار النفسي والجسدي كالصخور المجسمة، والعيون الضخمة المهلوسة، والعجلات الناعمة، وكانت هي العناصر الأساسية التي تخيلها وأنتجها الفنان سلفادور دالي، ومن مظاهر السريالية في الفيلم أيضًا ما جاء في تسلسل الأحلام، حيث تتغير شخصية الممثلة إنغريد بيرغمان إلى تمثال. (1)

فيلم «غرباء في القطار» (1951)

لطالما كانت المناظر السينمائية الضخمة جزءًا مهمًا من أفلام هيتشكوك، وقد وُجدت هذه المناظر سابقًا في العمارة الميتافيزيقية للوحات جورجيو دي شيريكو، والذي كانت لوحاته تحتوي على مناظر حضرية مهجورة وسريالية أثّرت تأثيرًا كبيرًا في الفنانين السرياليين اللاحقين، بما في ذلك سلفادور دالي ورينيه ماغريت.

نجد التشابه في الحجم الهائل للهندسة المعمارية في كلتا الصورتين، مما يصدر بعض ملامح الريبة والخوف في نفس المُشاهد، ويظهر الشكل الأساسي برونو وحيدًا منفردًا في الخلفية، خصوصًا مع بدلة برونو السوداء المتباينة مع الخلفية، وتم استلهام ذلك من لوحة سريالية لتحقيق غرض درامي حيث أراد المخرج نقل تلك المشاعر في المشهد، حيث لم يكن الغرض من اللقطة أن تبدو سريالية بقدر ما تُعنى بالتأكيد على التباين الصارخ في اللون والحجم. (1)

فيلم «الطيور» (1963) 

تأثر هيتشكوك باللوحات السريالية للفنان رينيه ماغريت، والذي تميز الأسلوب السريالي لديه بانفصال العناصر عن البيئة، وغرابة العلاقة بين الأشكال الواقعية، وهي ملامح تشكيلية تتناسب مع الصيغة السينمائية من حيث الجو الدرامي مما أتاح نقل أسلوبه السريالي إلى الصورة السينمائية، فنجد أن لوحته «المياه العميقة» تتعلق بالصورة الدعائية لفيلم «الطيور»، حيث يظهر بينهما ارتباط وثيق، فتحتوي كلتا الصورتين على شخصية أنثوية، وطائر مشؤوم يشير إلى رأس المرأتين، وتتشابه الخلفيتان أيضًا لاحتوائهما على الماء. (1)

فیلم «عرض ترومان» (1998) 

ومن التأثيرات الأخرى للرسام السريالي ماغريت ما نلاحظه من خلال الكادر السينمائي من فيلم «عرض ترومان» للمخرج الأسترالي بيتر وير، حيث استوحى الكادر من اللوحة التشكيلية «عمارة ضوء القمر» لماغريت، التي رسمها عام 1956، وتُظهر اللوحة قمرًا كرويًا يضيء فوق درج أبيض، وتشبه اللوحة أحد المَشاهد الأخيرة من فيلم «عرض ترومان»، حيث يقف ترومان في أعلى درج ينظر إلى السماء المرسومة والمطلية، حيث إن لوحة «عمارة ضوء القمر» ألهمت مشهدًا كاملاً في الفيلم.

وترتبط اللوحة السريالية التي رسمها ماغريت ارتباطًا وثيقًا بالوضع السريالي المربك الذي يجد ترومان نفسه فيه، حيث لا يظهر هذا المشهد مبهجًا من الناحية الجمالية فحسب، بل يرتبط أيضًا بالمعنى الأعمق لعالم مزيف تمامًا على أنه حقيقي بالنسبة إلى العين، ولكن إذا بحثت أكثر تجد أن هذا العالم غير موجود. (1)

وفي الختام، فإن انتقال الفن السريالي إلى عالم السينما شكّل مرحلة مهمة في تطور السينما، وذلك عبر تحدي التوقعات واستكشاف عوالم اللاوعي، مما أضاف بُعدًا فريدًا ومثيرًا إلى لغة السينما، وذلك من خلال كسر التقاليد والقواعد واستخدام التقنيات المبتكرة، حيث قدّمت الأفلام السريالية تجارب بصرية استثنائية، وتعبيرًا عن عوالم ذهنية معقدة، وهذا الاندماج بين الفن والسينما لم يكن مجرد انتقال، بل كان تحوّلاً إبداعيًّا أثرى عالم السينما بتنوعه وعمقه، مما يجعل السينما السريالية لا تُنسى في تاريخ السينما.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

عبدالجواد، أمل، وعلي، صالح(2022) السريالية بين الفنون التشكيلية والصورة السينمائية (دراسة تحليلية مقارنة). مجلة الفنون والعلوم الإنسانية،5 (9)، 11-1. 20.  
2. Giukin, Lenuta (2002) From Surrealist Film to Surrealism in Film (Surrealism in the 20th Century Commercial Cinema). Department of French University of Illinois at Urbana-Champaign.
3. Moin, Raphaelle, and Taminiaux, pierre(2006) From Surrealist Cinema to Surrealist in Cinema: Does a Surrealist Genre Exist in Film?. Yale University Press.
مريم عبدالله
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا