مقالات

رحلة حمار يتذكر ويحلم

الحمار مخلوق ارتبط، عبر الأزمنة ومختلف الأمكنة، بالمعاناة والبراءة والتواضع، إضافة إلى اضطراره للقيام برحلات طويلة وشاقة. في عدد من الأفلام العالمية، لعب الحمار دورًا رئيسًا في حشد الشخصيات البشرية من حوله، وتحريك الأحداث، وجعل نفسه المحور الذي من خلاله نتعرّف إلى طبيعة الشخصيات وبواعثها، وما تحمله من قيم ومبادئ وأفكار.

من أشهر هذه الأفلام:

«بالتازار» Au Hasard Balthazar (روبير بريسون، 1966).. وقد أكّد سكوليموفسكي، في إحدى مقابلاته، أن فيلمه مدين بوجوده إلى فيلم بريسون هذا، وقال: «"بالتازار" فيلم عظيم حقّقه مخرج عظيم. شاهدتُ الفيلم للمرّة الأولى، متخذًا الموقف المهني، الناقد، الساخر قليلاً، وأنا أحاول تأمل كيفية تنفيذ الفيلم. عندما انتهى الفيلم، شعرت بالدموع تترقرق في عينيّ. الدرس الذي تعلمته من بريسون، هو أن البطل الحيوان قادر على تحريك مشاعر المتفرج ربما أكثر من البطل البشري». 1
أما فيلم «إي أو» أو «إيو» (2020) EO، الذي أخرجه وكتبه البولندي ييرزي سكوليموفسكي Jerzy Skolimowski، وكتب له السيناريو بالمشاركة مع زوجته الكاتبة والمنتجة إيوا بياسكوفسكا، فيتابع مسيرة حمار، تجتمع فيه الطيبة والحكمة والعناد، يُدعى إيو، منذ تواجده في سيرك بولندي، مع حارسته التي تحبه كثيرًا وتعطف عليه، وحتى نهاية عمره بعد سلسلة من الانتقالات عبر عدد من المالكين، ومن المهن المختلفة، في الأرياف والمدن، عبر الحقول والمزارع والأنفاق والحدود (منتقلاً من بولندا إلى إيطاليا)، مارًا بالبيوت والأزقة والحانات وحدائق الحيوان والمسالخ.
من خلال رحلة الحمار، وإيماءاته وحركاته، يكشف الفيلم عن سلسلة من العلاقات القائمة بين الإنسان والحيوان؛ بعض الناس يتقاسمون معه لحظات من الاتصال والأمان والطمأنينة، وبعضهم الآخر يتخذون موقف اللامبالاة أو الازدراء أو القسوة. في البداية، يتم انتزاع الحمار من السيرك بأمر قانوني حصلت عليه جمعية الرفق بالحيوانات، ينص على عدم شرعية استغلال الحيوان في برامج السيرك الترفيهية، والذي يُعد تعذيبًا له. المفارقة هنا، أن حياة الحمار في السيرك كانت أفضل بكثير من الحياة التي عاشها متنقلاً بين المناطق، ومواجهًا أصنافًا شتى من البشر: فهناك قلة تتعاطف معه، إزاء كمّ هائل من العنف والحقارة والوضاعة والقسوة الصادرة من فوضويين ومهرّبين ومزارعين.  
العالم هنا مرئي غالبًا من وجهة نظر الحمار، من خلال عينيه الواسعتين والبريئتين. بل إننا نرى أيضًا ما يتذكره، وربما ما يحلم به، حيث يتوق إلى الالتقاء ثانيةً بحارسته الحنون، العاملة في السيرك. الشخصيات تظهر أمامه عشوائيًا وتختفي، حضورها سريع الزوال، وكذلك قصصها أو قضاياها، حيث لا إسهابَ ولا تناميَ لتلك المواقف طالما أنها مرئية من وجهة نظره (أي الحيوان). مواقفه سلبية عمومًا، لكن أحيانًا يتخذ موقفًا إيجابيًا حين يركل المُزارع الذي يتعامل بقسوة ووحشية مع الثعالب. ونحن نشعر بعاطفته وأحاسيسه تجاه ما يراه وما يختبره.
الملمح الأهم نجده في تهميش دور ووظيفة الحمار، إذ لم يعد حضوره مهمًا على صعيد الوظيفة والإنتاج، بل يمكن القول إنه صار عديم الجدوى، ويشكّل أحيانًا عبئًا على الآخرين. حتى أن مهماته أُوكلت إلى الآلات. هو إلى حد ما يشبه الإنسان المتقاعد، الذي يشعر بأن المجتمع لم يعد بحاجة إليه لمجرد أنه تجاوز الستين بأعوام قليلة. الحمار لا يتحكّم في حياته. إنه خاضع لرغبات ونوايا مَن يمتلكه، حتى لو مؤقتًا. هو الآن تقريبًا بلا غاية. الآخر هو الذي يحدّد قيمته وغايته، وكيفية الاستفادة منه.
الفيلم تجربة سينمائية لافتة واستثنائية، يقدمها مخرج كبير إبداعًا وسنًا (حيث يبلغ الآن 85 عامًا من عمره)، وهو يهدي فيلمه إلى محبّي الطبيعة والحيوانات. وهو مصنوع، على حد تعبير سكوليموفسكي، «بدافع الحب تجاه الطبيعة والحيوانات». إنه يستخدم الحيوان للتعليق على الطبيعة البشرية، يريد أن يقول شيئًا عن علاقتنا، نحن البشر، مع الأجناس والمخلوقات الأخرى التي تعيش معنا وبيننا، وأيضًا علاقتنا بالآخرين الذين يُعتبرون بلا جدوى، ومجرد عالة على المجتمع. الحيوان هنا يُظهر أفضل ما بداخل الإنسان عند بعض البشر، والأسوأ عند بعضهم الآخر.

يقول سكوليموفسكي:

«الفيلم يحتوي على مَشاهد ذات أبعاد مجازية، وهي بعيدة عن الموضوعية. وثمة كثيرٌ من التلميحات إلى مظاهر عديدة في الحياة. من الصعب التعبير عن ذلك بالكلمات. كما تعلم، كنت شاعرًا أيام شبابي، بالتالي أعرف كيف أوجّه مخيلتي، على نحو طبيعي، تجاه المجازات والمعاني التي أحيانًا لا يمكن التعبير عنها من خلال الكلمات».
لضمان أن يؤدي الحمار دوره من دون إعاقة، وتحسبًا لأي ظروف طارئة قد تعطّل التصوير، فقد استعان المخرج بستة حمير من النوع المتماثل. يقول سكوليموفسكي: «الحيوان لا يعْلم أن ذلك مجرّد تمثيل. الحمير تتصرّف وفقًا لغريزتها فحسب. إنها من نسل جميل جدًا. وهي متشابهة إلى حد يصعب على أي متفرج التمييز بينها. وهي دائمًا تحمل التعبير نفسه، بتلك العيون الواسعة، الحزينة».2
الفيلم لا يعتمد الخط السردي التقليدي، بل يطرح موضوعه عبر فصول أو أجزاء متتالية، غير محكومة بالسرد الخطي. وهو يتميّز بإخراجه العميق وتصويره الرائع (ميشال ديميك) حيث الكاميرا تحلّق في الفضاء، أو تدور في اهتياج لتتوافق مع حركة الريح، أو تنحدر حتى تكاد تلتصق بالأرض. والانتقالات بين الأجواء والأزمنة والمواقع تكون سريعة ورشيقة.
للفيلم خاصية وثائقية، حيث يتمازج الحس التسجيلي والطبيعة الدرامية، إلى جانب التوجه التجريبي (خصوصًا في أسلوبه، حيث التحولات المستمرة في أبعاد الصور، وحركات الكاميرا، وأحجام اللقطات، والانتقالات اللونية غير المتوقعة). حاز فيلم «إيو» على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان «كان»، وجائزة نقاد السينما في لوس أنجلس.
بدأ سكوليموفسكي ملاكمًا، شاعرًا، رسامًا، قبل أن يتجه إلى دراسة السينما، ويصبح كاتبًا وممثلاً ومخرجًا، وواحدًا من العناصر الفعالة والمتميّزة في حركة السينما الجديدة في سنوات الستينيات في القرن الماضي، في بولندا، الفترة التي اعتُبرت عصرًا ذهبيًا في تاريخ سينما أوروبا الشرقية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

1.موقع «إندي واير» IndieWire، بتاريخ 23 نوفمبر 2022

2.المصدر السابق

أ. أمين صالح
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا