النقد

«ناقة».. لو أن مشعل الجاسر اسمه ميشال جايسون

كنا سنسمع بالتأكيد مدائح لا حصر لها في فيلم «ناقة»، لو أن كاتبه ومخرجه السعودي الشاب مشعل الجاسر كان اسمه ميشال جايسون، وهو اسم وهمي مُختَرع، سيحمله مشعل في عالمٍ موازٍ، وستُصفّق له جموع ضخمة من الجماهير، سيُشِيدون بحكايته المثيرة، بمدخل الأكشن الرائع الذي افتُتح به الفيلم، وسيعدّونه واحدًا من أبرز مقدمات الأفلام في الألفية الجديدة، سنسمع كثيرًا عن قدرات هذا المخرج على جعل المُشاهد يتابع الفيلم «على أعصابه» في انتظار اللقطة التالية وما ستحمله من قلق وتوتر، سيمتدحون غالبًا انتماءه إلى بيئته المحلية وإبرازها، وتسليط الضوء على طبيعتها، وخرافاتها وأساطيرها وواقعها، ويقولون إن هذا المخرج المختلف أجاد اللعبة، وانطلق من محلّيته الضيقة ليلامس سقف العالم، واستلهم من بيئته التقليدية التي تجسّدها الصحراء من جهة، بناسها وساكنيها وعوالمها، والناقة من جهة أخرى بالحضور الفعلي للإبل في الفيلم، أو بالرمزية التي تجسّدت في بطلته. حكاية كبيرة، وخيط سرديّة متقنة بنى عليها أحداث فيلمه.. لكنّ اسمه مشعل الجاسر.

عشر سنوات ربما أو تزيد قليلاً مذ بدأ الجاسر تقديم أعماله المجنونة والمختلفة، هي مجنونة بمعايير وقته، وهذا التوصيف ينطبق حرفيًا على أغلب الأعمال التي قدّمها في بداياته، وهذا الجنون لا يناقض صفتَي الجمال والإبداع، وهي أعمال مختلفة عما كان يسعى الآخرون لتقديمه في حينه، اسكتشات كوميدية وأفلام قصيرة بدأ في إنتاجها على نحو مستقل قبل أن ينضم إلى فريق «تلفاز 11» ويبدأ العمل معهم، محوّلاً أعماله الفردية إلى مشروعات إنتاجية جماعية، وهو ما منحه بشكل ما فرصةً لتطوير وصقل مهاراته الإبداعية، وأتاح له التمرّس على بناء المشروعات المؤسسية وتعلّم كيفية تنفيذها، وأصبح مشروع «فُلَيم» نقطة تحوّل حقيقية لموهبته، قدّم من خلاله عشرات الأفكار الإبداعية الجميلة، وتمكن بواسطة عشرين «فُليمًا» من استقطاب مليون مشترك إلى قناته، وتحقيق ما يناهز ثمانين مليون مشاهدة لأعماله، خلال ست سنوات تقريبًا، وهي أرقام فلكية في ذلك الوقت. بالطبع لم يتوقف مشروعه هنا، لكن الإشارة إلى هذه البداية مهمة، والمتتبع لمشروعات الجاسر منذ بدايتها، سيدرك حجم التطور والنضج الذي قدّمه في فيلم «ناقة» أول أفلامه الطويلة.

الفيلم إنتاج مشترك بين منصة نتفلكس، وشركة تلفاز 11، البيت الذي انطلق منه مشعل، وهي إحدى الشركات الرائدة في المملكة العربية السعودية، والتي تلعب دورًا مهمًا في تطوير وتعزيز الصناعة السينمائية والمرئية في المملكة، وسبق لها أن قدّمت عديدًا من الأعمال المهمة والملهمة، وصنعت عددًا كبيرًا من النجوم السعوديين الشباب، وأثارت الجدل بتسليط الضوء على عديد من الموضوعات اللافتة أو المسائل الاجتماعية المهمة، الأمر الذي نراه في فيلم «ناقة» الذي يُعدّ أحد الأعمال السينمائية المثيرة والجريئة التي أنتجتها أخيرًا. هو فيلم يتميز بالجمالية والتعقيد، يأخذ المُشاهد في رحلة نفسية داخل عوالم معقدة من الحياة، تجسّد ارتباكاتِها فتاةٌ بكل ما تحمله من إرث وتناقضات شخصية ومجتمعية، وهو ما برع فيه مشعل الجاسر، وأبطاله الشباب، أضواء بدر التي مّثلت دور سارة، الشخصية الرئيسة في الفيلم، ويزيد المجيول صديقها الذي سيشاركها النصف الأول من رحلة الفيلم، قبل أن تنقلب عليه وتقرّر المُضيّ وحيدة بعد مغامرة طائشة قاما بها معًا، وهو ما سيقودها إلى أحداث غير متوقعة في نصف نهار ممتلئ بالمفاجآت.

يجمع الفيلم بين لغة الجمال البصري في التصوير والتعبير الفني، ويظهر ذلك تحديدًا وبوضوح في تصوير المَشاهد الصحراوية، وقدرة المخرج على التحكم بالكاميرا، وإن رأى بعض الناس أن في التصوير مبالغة، وربما أيضًا كان ثمة مبالغات أخرى في المونتاج، لكنها في النهاية بصمة المخرج، ورؤيته، ليس هناك طريقة مثالية لتنفيذ الأمور، لكنها الرؤية الشخصية لمشعل الجاسر والتي اعتمدت في جانب منها على الإضاءة الذكية واللقطات الفنية، ليُسهم في إضفاء طابع فني خاص على الفيلم، بدأ مبكرًا مع مشعل، وسنجده دائمًا في أفلامه، مشكّلاً هويةً خاصة به.

قصة الفيلم بسيطة في التفاصيل، ولكنها تحمل في طياتها تعقيدات نفسية هائلة.. صراع البطلة سارة ضد مجتمعها، وأسرتها، حيث تدخن بشراهة، تستتر بصديقتها للخروج مع شاب، تزور مخيمًا في الصحراء وتلتقي أشخاصًا لا تعرفهم، ترفض المظاهر التقليدية للناس وتختار الشكل الذي تقدّم نفسها من خلاله. ويقوم المخرج بتناوب زمني بارع ليقدّم لوحة تُعبّر عن ارتباط الحاضر بالماضي البعيد الذي يبدؤه الفيلم بسلطة الأب ومنبعها. تتناغم الأحداث بسلاسة، لكن المُشاهد يظل مشدود الأنفاس، ويظل التشويق عاليًا في السرد، ومحفزًا على الانتظار، وتكرار سؤال: وماذا سيحدث الآن؟! يعتمد الفيلم أيضًا على كثير من المؤثرات النفسية والعاطفية، ويبني تأثيراتٍ بصرية على مستويات عدة، يظهر فيها الأداء التمثيلي المتميز للشابة أضواء بدر، تظهر مَشاهد الفزع والقلق على نحو ملموس، وكيف تتداخل أحقاد الناقة ومفاهيمها التراثية بين الناقة الأم المكلومة فعلاً، وبين البطلة التي تغذّي أحقادها المخبأة فيها. أضواء بدر تتألّق بملامحها وقدراتها، وتبدّل حالاتها النفسية حيث تتقلب بين مشاعر الخوف والقوة والرغبة في الهرب، وربما اللامبالاة أحيانًا، بطريقة مدهشة. ويبرع الفيلم في ضبط إيقاعه بالموسيقى التصويرية الموفّقة لتعزيز هذه التأثيرات وزيادة جرعة التوتر في الأحداث.

لا شك أن «ناقة» عمل جريء، في تسليط الضوء على شخصية متمرّدة مثل سارة، وتقديم جانب من الحكايات المسكوت عنها، سواء الحياة السريّة للأفراد، أو الفساد الذي يتمثّل في شاعر معروف، أو العلاقات السطحية التي تنشأ بين الجنسين، وهو الأمر الذي أثار ردود أفعال شديدة التباين بين المشاهدين في منصات التواصل الاجتماعي، وهي مسألة صحية تشير بالدرجة الأولى إلى ذكاء فريق الفيلم، وقدرته على استقطاب هذه الآراء المختلفة رغم تباعد مشاربها واختلاف تجربتها، ومن جهة ثانية تشير بوضوح إلى وعي المتلقّي الذي يبحث عن أعمال ناضجة، وهو وعي ربما لا يكون قادرًا على الإلمام تمامًا بمختلف جوانب الصناعة السينمائية، لكن هذا الجمهور هو المسؤول عن الشبّاك ومبيعاته، ومنصات البث وأرقام مشاهداتها، ولا شك أن هذه الضجة التي أعقبت الفيلم منحت شعبية لصنّاعه، وحمّلتهم مسؤولية الأعمال المقبلة، ومدى إمكانية استقطاب الجمهور ذاته مرة أخرى لمشاهدة أفلامهم ومشروعاتهم الجديدة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

أ. معتز قطينة
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا