حينما يصل فيلم سعودي باسم «نورة» إلى مهرجان «كان» بعد فوزه بجائزة أفضل فيلم في مهرجان البحر الأحمر، لا بد وأن يُعلّي المشاهد العادي والناقد أيضًا من توقعاته، إذ ليس اسم «نورة» اسمًا عابرًا رغم عاديته، وهو المنتشر في جزيرة العرب بدرجة كبيرة، وإنما هو يدل على شخصية محلية وعامة جدًا بالضرورة، إذ إننا لا نتحدث عن «وجدة»، أو عن «شامة»، كما في فيلم «وجدة» أو فيلم «حد الطار»، وهما اسمان مختلفان ويوصّفان شخصيتين غير نمطيتين، بل نتحدّث عن «نورة»، تلك التي يجدها المُشاهد في المنازل والبيوت السعودية عمومًا، وذلك ما يحيل إلى محاولة الفيلم الحثيثة في تعميم نفسه بوصفه فيلمًا كلاسيكيًا: نورة الفريدة في الفيلم هي نورة عامة، وليست نورة خاصة. هي نورة ما غيرها.. ومن هنا تأتي فكرة الفيلم الأساسية: نحن أمام نضال فتاة في «ديرة» تقليدية من دير المملكة، ولسنا أمام نضال فتاة حديثة في إحدى الحواضر. الاعتياد الكلاسيكي في الفيلم هنا ينطلق من الديرة، أو، من الهامش، وليس من المدينة، أو المركز، ومن هذا المنطلق تحديدًا، تجدر مساءلة الفيلم.
لم يعد بالإمكان أن نتحدّث، في ظل الدعم والتمويل الكبير المصاحب للسينما السعودية اليوم، عن الجودة التقنية وتطوّر الإنتاج. لم يعد الإنتاج الكبير وتعدد زوايا الكاميرات، كما قدرة المخرج على إخراج مشاهد جميلة بصريًا في الظلام أو بإضاءة خافتة، أمرًا مبهرًا بحد ذاته، بل إننا الآن في اللحظة الفارقة والأهم: لحظة اختبار قدرة المخرج على تقديم رؤية بصرية فريدة، وأن يقول شيئًا بكل هذه التقنيات المبهرة. يقدم فيلم «نورة» محاولة في هذا الاتجاه، وهو الذي يقدّم لحظة اصطدام تقليديةِ الديرة بحداثة المدينة بوصفها لحظة الصراع الأساسية في الفيلم، ما يؤكد، بالطبع، على محاولة الفيلم لرواية سردية كبرى للمجتمع والثقافة. ولهذا تحديدًا تكون معاينة الفيلم معاينة ثقافية بامتياز.
من الواضح طبعًا، حين نشاهد الفيلم، أنه لا يخرج عن السردية التقليدية. فتاة يتيمة في ديرة نائية -لا يحددها الفيلم- تشتري المجلات بالسر وتخفيها عن أهلها، في مقابل مدرّس يأتي ليعلّم الأطفال القراءة والكتابة، والأهم: يعلمهم الرسم. من هذه اللحظة تحديدًا نجد الصراع واضحًا: لا تقبل الديرة عمومًا أن يدخل الرسم إليها، وهي المتوجسة للغاية من أي شيء حديث مثل الكهرباء، ناهيك بالرسم. ويصل الصراع حتى أشُدّه حين تطلب اليتيمة نورة من المدرّس الفنان، نادر، أن يرسمها. يتضح الصراع بين الحداثة، في نظر الفيلم، وبين التخلف، في هذه اللحظة غير الاعتيادية، وهي لحظة وجود فنان معتزل أمام مجتمع يرفض الفن، وتمثّل نورة محاولة بعض أفراد المجتمع التقليدي للهروب من تخلفه إلى الحداثة والمدينة والفن، ويمثّل المدرس نادر الفنانَ المنقذ، إذ ليس الفن مجرد ترف هنا، بل هو طريق الخروج من التخلف. نحن أمام مجتمع مكوّن من دون تحديد ومن دون اسم، يرفض الفن والكهرباء ويرفض المجلات، وأمام مدرّس حكومي غريب، فنان، حديث وشجاع -وربما أحمق؟- في اتجاه مساعدة المرأة. وفي الحين الذي يُمكن تفهّم هذه السردية بدرجات متعددة في السنوات السابقة، وهي السنوات المتعطشة للخروج من عباءة الصحوة، فإنها أضحت كليشيه مفرغًا من أي معنى أصيل وصادق، إذ إننا ما زلنا ندور في غمار الصراع بين الفن والتزمُّت، بين الحرية والسلطة التقليدية. ذلك ما يجعلنا نسائل التفاصيل علّنا نجد شيئًا مختلفًا: أي هامش هذا الذي ينطلق منه الفيلم؟ وأي قرية هي هذه القرية التي يسردها الفيلم؟ وأي ثقافة هي هذه الثقافة التي ترفض رؤية الجد لحفيدته، لكنها لا تقتل مَن كاد أن يخطف ابنتهم؟ (كما أننا نتساءل طبعًا عن حقيقة مجيء المدرس الرسام إلى القرية، إذ في لحظة يؤكد أن جدها، الممنوع من رؤيتها، هو من أرسله إلى القرية ليرسمها كي يراها، وفي لحظة نرى أنه كان يرفض رسمها حين أصرّت أن يرسمها، لكن لا علينا). كثير من الأسئلة، غير أنها تصل إلى ذروتها حين نعلم أنه فيلم مصوّر في «العلا» (ما نراه طبعًا في الجبال ذات الرسوم الفذة والطبيعة المذهلة)، غير أن الفيلم لا يشبه العلا ثفافيًا أبدًا طبعًا. تنطلق هذه الأسئلة بطبيعة الحال من حقيقة مهمة جدًا: لا يمكن الحديث عن هامش عام، بل يأخذ الهامش أهميته العمومية في تفاصيله الصغيرة الدقيقة. لو تحدثنا عن قرية معينة باسمها، لتمكّنا -بعد ذلك- من تعميم الهامش هذا عبر التفاصيل إياها. غير أننا لا نجد تفصيلاً، ونجد كثيرًا من الأسئلة التي لا نجد لها جوابًا تفصيليًا يفسّر الهامش إياه.
وفي حقيقة الأمر نجد أن جواب كل هذه الأسئلة الثقافية موجود بدرجة واضحة حينما نعاين أهم مسألة في الفيلم، وهي أنه فيلم موجّه إلى الجميع؛ ليس فيلمًا مكتوبًا لغاية فنية محضة، بقدر ما أنه فيلم مكتوب ليحوز على رضا جميع مَن يشاهده. وفي «جميع من يشاهده» هنا تفصيل، إذ يحرص الفيلم على تقديم هذه السردية البهرجيّة للمُشاهد الأجنبي: نحن في خضمّ مرحلة تحوُّل إلى الفن والحداثة وحقوق المرأة وحب الحياة، ما يفسر وصول الفيلم إلى مهرجان «كان» طبعًا، كما أنه يحرص على عدم الإخلال برضا المجتمعات المحلية التي ينتقدها، إذ إننا لا نقول بأن المجتمع يقتل الفتاة حين تتجرأ على التمرّد، كما أننا لا نقول بأنه مجتمع يقتل الغريب حين يحاول أن يساعد فتاة على التمرد دفاعًا عن الشرف، كما أن الربابة حاضرة في المجتمع وهي دلالة على وجود الفن (رغم أن الفيلم يقدمها بأكثر الصور الباهتة الممكنة طبعًا) وذلك رغم إظهاره بالصورة المتخلفة نفسها، كما يتفادى المخرج، في حقيقة الأمر، مواجهة الانتقادات بطريقة متملّصة ذكية، إذ إننا لسنا أمام ديرة معروفة يمكن للمُشاهد أن يؤكد بأن الكهرباء قد وصلتها قبل التسعينيات بمدة كما هي بقية القرى والمناطق في المملكة (نعرف أن الفيلم يدور في التسعينيات من أغنية «شرطان الذهب» لراشد الماجد طبعًا)، كما أننا لا نقدر أن نواجه تناقضات الفيلم ونقول إنه من غير الممكن لديرة مثل هذه الديرة أن تكون مناهج التعليم قد وصلتها للتو في هذه اللحظة التاريخية أو تلك، ناهيك طبعًا بصعوبة مناقشة التفاصيل الثقافية الأكثر أهمية، مثل قبول الفنون أو مثل معدّل التديّن والمحافظة لدى هذه القرية بالتحديد، ما سيؤثر على هذه السردية المتعالية -والتي في حقيقتها مستشرقة ولكن بثوب محلي- على المجتمعات المحلية.
غير أننا لو تجاوزنا محاولة الفيلم الحثيثة لتقديم رؤية سردية كبرى، يمكننا أن نرى شيئًا جميلاً في الفيلم رغم تأثره الواضح بالفيلم الفرنسي الشهير «المشاغبة الجميلة» La Belle Noiseuse، إذ نجد اشتعال النيران الداخلية لدى فنان معتزل عن الفن لأسباب عديدة حينما يرى فتاة ملهمة محددة غير اعتيادية قادرة على إشعال نيرانه. نرى بروڤات رسم نادر لنورة في البقالة، بحوارات عن الفن والسينما ومايكل جاكسون. ذلك ما يحدث ونورة مرتدية نقابها وعباءتها بكاملها، وهو الذي يحاول أن يرسم ما وراء النقاب بصعوبة. غير أن تأثّر المخرج توفيق الزايدي بالفيلم الفرنسي إياه لا يتوقف هنا فقط، بل يصل حتى إلى الأسلوب المونتاجي نفسه. يرينا المخرج سكتشات نادر كما أرانا جاك ريڤيت سكيتشات فرنهوفر، غير أنه لا يرينا الرسمة الفعلية طوال الفيلم حتى النهاية، فكما أن فرنهوفر أخفى الرسمة عن الجميع حتى أراها للمُشاهد المتشوّق لرؤيتها في نهاية الفيلم، لم نر رسمة نادر لنورة حتى خروج نورة من الديرة، وحتى نراها متبرجة في إحدى المتاحف (ما يوحي بخروجها من التزمُّت الذي قد عاشته من دون مكياج كما يوحي الفيلم طبعًا)، وهي تنظر نحو الرسمة التي صادفت معاناتها في الديرة، وهو المشهد المرافق لموسيقى تصويرية ثقيلة في نهاية الفيلم، إذ يتشابه الفيلمان في محاولة «رمنسة» رؤية الرسمة النهائية، غير أنهما يتشابهان أيضًا بمنتوج فني متواضع؛ ليست رسمة فرنهوفر مبهرةً، كما أن رسمة الفنان نادر عادية أيضًا.
وبالملخّص، نجد أننا نخرج من السينما أمام فيلم مسخ بقدرات إنتاجية كبيرة، فهو فيلم لا يقول شيئًا سوى ترديد الفكرة العامة السائدة والتي كررها الكتّاب والصحفيون والسينمائيون قبل الزايدي مليون مرة خلال السنوات الأخيرة الماضية، دون إضافة أي خصوصية إخراجية فعلية -سوى الخدع البصرية المونتاجية البسيطة- إذ إن الفيلم -في محاولة إرضائه لجميع الأطياف الثقافية من المشاهدين- قد لا يُرضي سوى عشاق السينما الذين يريدون تكرار السردية السائدة لتحوّلات المجتمع السعودي، دون أي محاولة أصيلة لقراءة تعقيدات هذه التحوّلات، ودون محاولة فنية حقيقية لتقديم رؤية فنية فريدة متجاوزة للكليشيهات والسرديات المكرورة عبر كتابة سينمائية ذات قيمة. ذلك ما يؤكد طبعًا على فشل الفيلم في الوفاء بوعده بفيلم كلاسيكي عام يقدّم سردية عامة، وربما يجدر بنورةِ الفيلم أن تسمى اسمًا عابرًا آخر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش