يرى ابن خلدون أن شدة البأس والافتراس ملازمان للبداوة. إنما الحضارة بالنسبة إليه هي التفنن في الترف. ويعود قوله هذا إلى عام 1377م، قبل أي تقدم تكنولوجي أو صناعي مشهود للبشرية، ولكن الحال يتشابه في «الموتى السائرون» (2010-2022) المسلسل الذي يتناول انهيار الحضارة، ففي الحلقة الأولى منه يستيقظ «ريك» من غيبوبته ليخرج إلى الشارع ويجد مدينته التي كان يعيش فيها «ترف الحضارة» قد تحولت إلى أشباح.
الحضارة التي شُيِّدت منذ آلاف السنين من تراكم المعرفة بجميع مجالاتها يهدمها داء يتحول فيه الموتى إلى سائرين متوحشين، إذ يمكن رؤية الدمار المادي الذي أصاب العالم فلم يعد هناك مستشفيات أو أي مؤسسات، لكن الآثار المادية لم تكن النتيجة الوحيدة، حيث حاول المسلسل سبر أغوار النفس البشرية في حالة كارثية مثل هذه، فبعد أن يوشك ريك على إعدام شاب، يستنكر فعلته «ديل» ذو الخمسين عامًا ليرى ريك أن كلامه لا مبرر له بينما ديل يؤكد له: «هذا ما يفعله المجتمع المتحضر»
ليرد ريك: «من قال إننا لا نزال مجتمعًا متحضرًا؟»
وليردف ديل قائلًا: «كلا، العالم الذي عرفناه انتهى، ولكن الاحتفاظ بآدميتنا خيار متاح لنا».
وإذ يمكن لنا القول بأن مفهوم الحضارة قد لاقى اهتمام كثيرٍ من المفكرين والباحثين لترد تعريفات كثيرة لها، لعل الأنسب في هذا السياق هو تعريف ديورانت حيث يرى أنها نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة في إنتاجه الثقافي. ولكي نوضح أن الحضارة لم تعد موجودة في «الموتى السائرون» يكفي ملاحظة أنه لم يعد هناك نظام كما يعتقد ديورانت، بل فوضى عارمة.
وحتى حين ينجح ريك في صياغة نظام مؤقت، لم يكن ما فعله سوى محاولة بدائية للبقاء، فالنظام الذي صاغه لا ينطلق من مفهوم مدني، على أنَّ المدنية هي الكلمة التي اشتُقت منها «الحضارة». وعند البحث عن مبرر لريك، سنجده في تكملة تعريف ديورانت، حيث إن الحضارة تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق، لأنه إذا ما أمن الإنسان من الخوف استطاع أن يؤسس حضارة، فالأمان إذًا على هذا الأساس قد هُدِم كليًا في بيئة «الموتى السائرون».
استطاع المسلسل أن يقدم نموذجًا عالميًا للحضارة، فرغم خصوصية المكان الذي اختاره وهو مدينة أتلانتا (ولاية جورجيا الأمريكية)، فالتعليم والتكنولوجيا يكادان يكونان أمورًا مشتركة بين جميع الحضارات المعاصرة. ومن هذا النموذج الواحد تختفي احتمالية وجود نماذج أخرى لأن النماذج بسماتها المعقدة تأتي نتيجة الحضارة، وهي نفسها التي يشير المسلسل أنها قد انهارت. بناء على ذلك، يقدم العمل بيئة خاص لا تشبه الظروف البدائية للإنسان لأنه هو نفسه ما زال عائدًا من حضارة لها شواهدها المعرفية والمادية، ولا تشبه أيضًا المجتمع المتحضر الذي عاشته شخصياته في فترات حياتها السابقة، إنما بيئة مستفردة بصفاتها ومشكلاتها وهمومها.
مع اعتياد الإنسان هناك على القتل اليومي للموتى السائرين، صار القتل بالنسبة إليه أمرًا روتينيًا. حتى حين كانت تَعتبر «ديانا» حاكمةُ الإسكندرية القتلَ غير مشروع، تُضطر نتيجةً لمقتل زوجها أن تأمر ريك بإعدام القاتل على الفور، فالقتل هناك لم يعد جريمة أخلاقية، بل فعلًا اضطراريًا تبدأ الشخصيات التعامل معه من جانب أقل وخزًا للضمير، على عكس عندما كانت تراه في حياتها المتحضرة السابقة، لتتحول الشخصيات من أناس يرون أنه لا مجال للتساهل في جريمة القتل إلى مرتكبين لها.
نعني بهذا أن المسلسل أراد اختبار مدى صمود فكرة الحضارة التي يجد شخوصها عراقيل كثيرة لأن يصمدوا أمام حادثة بيولوجية. تتصاعد الأحداث أيضًا، فتظهر عصابات معتدية ومتسلطين وقتلة وأناس تعايشوا مع هذا العالم الجديد وباتوا أشخاصًا قادرين على العنف من أجل البقاء على قيد الحياة، فبدلًا من أن يبحث الإنسان على ما تعوّد عليه في مجتمعه المتحضر كالوظائف ومتابعة أخبار المشاهير، صار يبحث -وبطرائق أغلبها غير مشروعة- عن شيء واحد: الأمان. إلا أنه لا يجده، حيث تبدو أصوات الموتى السائرين مثيرة للرعب، ليختلط الواقع المعاش بواقع بدائي موحش لم ترَ له البشرية مثيلًا.
وهكذا يتعدى المسلسل من كونه عملًا فنيًا إلى محل اختبار لعديد من المفاهيم الجوهرية لدى الإنسان، منها: احترام الآخر، فهذه القيمة التي أتت مع بناء الإنسان لحضارته باتت فكرة غير مرغوب بها في واقع يرغمه على القتل لأجل العيش، وعلى التنازع مع الآخر، وعلى القسوة بدلًا من الرحمة، لتظهر جماعة تعتدي على «ديرل» وتسلبه حقه في غمضة عين وفي مكان آخر تجبر الظروف ثلاثة فارين ليعتدوا على ممتلكات ديرل نفسه، إلى أن تتطور الأحداث لتظهر جماعة في الجزء الخامس تؤيد القتل، كونه السبيل الوحيد للعيش.
وبسبب هذا تجدر الإشارة إلى أن اختيار المسلسل للمسبب في هذه الكارثة، وهو داء بيولوجي، مكّنه من أن يجعل الإنسان في حالة عجز قصوى أمام ما يهدد وجوده الرئيس.. ليس الإنسان باعتباره حالة فردية، بل الإنسان المتحضر الذي شق طريقه إلى الحضارة منذ آلاف السنين، فحتى التطور المادي الهائل لم يعد يجدي شيئًا أمام ما حدث.
في هذا السياق، تحضر مقالات ألبير كامو التي درست اللاجدوى وأسطورة سيزيف، حيث يعرض كامو لاجدوى الحياة أو التقدم. لذلك، حسب اعتقاده، يلجأ الإنسان إلى السماء أو الآلهة باعتبار أن كل شيء لم يعد يجدي. وهكذا يطلب ريك إشارة إلهية عما إذا كان هناك أمل للبقاء والكفاح لأجل العيش في هذه الحياة الجديدة، لكن ابنه يصاب بطلقة طائشة عن طريق صياد للغزلان. ريك نفسه الذي يفقد الأمل في السماء يعود ويمزق أوراق تدعو للصلاة في الكنيسة. وبهذا -نتيجة للواقع الجديد المشحون باليأس والدمار- سيكون قد أوضح المسلسل سقوط عديدٍ من المفاهيم الثقافية، كالدين، والفنون، والتعليم، معلنًا أن المفاهيم الثقافية والقوانين المجتمعية هي قرينة الحضارة، فإذا انتهت الحضارة تلاشت أي مظاهر مدنية أو اجتماعية.
بالمقابل وبسبب طبيعة المسلسل الفنية، لم تكن طبيعة الأحداث منحازة لكل ما هو معذِّب، بل ظهرت عديدٌ من مشاهد علاقات الحب والرحمة والصداقة والضمير أو بقايا الضمير، وبعض التجمعات التي التزمت إلى حد ما ببعض مظاهر الحضارة، على اعتبار أن هناك جوهرًا ما في الإنسان يحافظ عليه من الانهيار الأخلاقي الكامل، كما قال ديل في السابق، وهذا الثبات الهش ظل معرضًا للهدم في أي لحظة من لحظات العمل.
وحسبما جرت المشاهد، يُلاحَظ أن المسلسل كذلك أراد اختبار مفهومين متناقضين، اليأس والأمل، ولكن الأمل هنا ليس أمل خلاص شخصي، بل مصيري لسكان العالم، فبعد أن تبوء كل عمليات استعادة الحياة السابقة بالفشل، يتحول الأمل إلى رغبة في البقاء بأمان ليوم واحد فقط، فالشخصيات هناك تركض من مكان إلى آخر بحثًا عن الأمن بعيدًا عن الخوف من الموتى السائرين والأحياء القتَلة، في حين حضر اليأس باعتباره الشبح المرعب لأغلب شخصيات المسلسل والمنطق الوحيد للتعامل مع العالم الجديد الذي شارف على الانتهاء..
إذًا استطاع المسلسل -بهكذا تناولات كبيرة- أن يطرح قضايا وجودية رئيسة على نحو فنّي، لا يغلب عليها التشويق بسبب الضرورة الفنية بل بسبب مشاعر الإنسان تجاه كل ما هو زائل وكل ما هو شر ومهدّد.. فالناس هناك لم يعودوا يخافون من الموت لذاته بل لاحتمال تحولهم إلى موتى سائرين، وحيث قال سيغموند فرويد إن هناك غريزة في الإنسان تحرضه للفناء، لم يعد هناك أي فناء في «الموتى السائرون» بل فقط التحول إلى شكل مرعب من أشكال الحياة..
على أن مظاهر العبثية التي أنتجتها المَشاهد لأعداد الموتى السائرين الهائلة تبعث في الأحياء هناك خرابًا نفسيًا كانت من ضمن المحرضات لتلاشي قيمة الرحمة وظهور غرائز التوحش والتطرف لدى شخصياته، حتى أكثرهم بطولةً: ريك، أو الأكثر رحمة: مونرو، فإن ريك، رغم عذابات ضميره بسبب قتل صديقه المقرب، لم يتوقف عن ارتكاب جرائم قتل أخرى، وهكذا بلا شك يتحول إلى شخصية مختلفة لم تأت عارضًا إلى الواقع الجديد، بل كانت أحد إفرازاته الحتمية، فإن طفل ريك الذي يُضطر إلى قتل أحد الأشخاص، ما هو إلا دليل واقعي لما أحدثه هذا الحدث الطارئ في طبائع الإنسان.
في هذا الجانب اعتبر دوستويفسكي في روايته «الجريمة والعقاب» أن الضمير هو العقاب الحتمي للجريمة، فشخصيته راسكولينكوف تتعرض لنوبات ضمير قاسية بسبب اقترافها جريمة قتل العجوز، وحيث يعتبر دوستويفسكي الضمير هو عقاب، يعيش ريك رغم سطوة ضميره القاسي والذي أدى به إلى الجنون دون التوقف ليس بفعل شراهته للقتل، بل استجابة للواقع بارتكاب جرائم قتل أخرى بحق الأحياء، لِما يطرح من تساؤل استشرافي: إذا استمر هذا الواقع، هل سينتهي الضمير نهائيًا؟ وهل الضمير نتاج للحضارة أم هو جوهري في الإنسان؟
وعلى هذا النحو اعتقد «سيغموند فرويد» الأنا بأنها الضمير الحي للعقل والتي لديها القدرة على التفرقة بين الصواب والخطأ، كما يقول إنه من دون الأنا العليا سيتصرف الناس بعدوانية وعنف وبلا أخلاقيات لعدم قدرتهم على التفرقة بين الصح والخطأ، وهذا ما يتنبأ به مسلسل «الموتى السائرون» ما إن انتهت الحضارة كليًا.
لم تبقَ في البيئة الجديدة التي تحدثنا عنها سوى قليل من التركات المادية للمجتمع المتحضر، وهو ارتباط كان يذَّكر الشخصيات بالماضي، ليشعروا بالحنين لحياتهم السابقة، آملين في عودتها من جديد، فلم تكن للبقايا المادية دلالة إشباع حاجة فقط، بل كانت شاهدًا وتذكيرًا بالحضارة التي توشك على الاختفاء. عندما يفقد ريك زوجته أثناء ولادتها بطفلتها يبقى السبب في وجوده هو ابنه وطفلته الوليدة، والتي يسعى جاهدًا ليس فقط لأن تعيش بأمان، بل للحصول على مجتمع يكفل لها العيش والتمتع بحقوقها، كما عاش ريك (أبوها). لكنه هو نفسه -بفعل الحوادث غير المتوقَّعة- يساهم في مفاقمة الوضع وتوجيهه إلى مجتمع أشد خطورة ووحشية.
أخيرًا، يمكن لنا القول بأن المسلسل قدر على خلق مساحة لإشكالية جديدة تخوض في الضمير الإنساني والحضارة وتعرِّضه لاختبار شاق حتى بعد أن قطع الإنسان هذا الكم الهائل من التطور المعرفي والأخلاقي. يحافظ الإنسان على بقايا قليلة من الحضارة فيه وينهار أمام ظروف تجبره على التخلي عن الضمير، فلا هو الإنسان البدائي الأول الذي لم يكن يعرف عن الحضارة شيئًا، ولا هو الإنسان المتحضر المتشبع بالأخلاق، على اعتبار أن هناك علاقة وثيقة بين الضمير من جهة والجسد من جهة أخرى، فما إن تعرض الأخير للتهديد، صار صمود الآخر مسألة وقت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش
1. مقدمة ابن خلدون (تحقيق: عبدالله الدرويش)
2. الجريمة والعقاب، دوستويفسكي، (ترجمة: حسن محمود)
3. الأنا والهو، سيغموند فرويد، دار الشروق (ترجمة: محمد عثمان نجاتي)
4. نقد الحضارة، محمد عبد الحق
5. أسطورة سيزيف، ألبير كامو، (ترجمة: أنيس زكي حسن)