تُقدَّم أفلام عربيّة كثيرة باعتبارها أفلامًا ملحميّة، منها فيلم «خالد بن الوليد» (1958) الذي أخرجه المصري حسين صدقي أو فيلم «الناصر صلاح الدين» (1963) الذي أخرجه المصري يوسف شاهين أو فيلم «الفجر» (1966) الذي أخرجه التونسي عمّار الخليفي أو فيلما السوري مصطفى العقاد «الرّسالة» (1976) و«أسد الصّحراء عمر المختار» (1981)، والمشترك بين هذه الأفلام نزعتها بجلاء إلى الإسهاب في عرض البطولات الحربية، فيندفع فيها أبطال مهرة وشجعان على نحو استثنائي للقتال من أجل الأمة في أوساط لامتناهية العظمة. ولكنّ النقد الأكاديمي يصنّف أفلامًا أخرى باعتبارها ملحمية والحال أنها تختلف عن معهود الأفلام النّمطية من جهة معالجتها الدرامية ولغتها السينمائية وحبكة أحداثها وموارد سردها، ولا تشدّها صلة إلى عرض أعمال الحرب والقتال.
من هذه الأفلام «آخر فيلم» (2006) الذي أخرجه التونسي النوري بوزيد ومداره على استدراج التيار السّلفي للشاب بهتة المولع بالرّقص العصري، أو فيلم «جنينة الأسماك» (2008) الذي أخرجه المصري يسري نصرالله، ومدار أحداثه على مذيعة راديو تقدم برنامجًا ليليًا يقدّم أسرار مستمعين يتصلون بها للبوح وطلب النصيحة، أو فيلم «مسافرو الحرب» (2018) الذي أخرجه السوري جود سعيد ويعرض رحلة متقاعد يغادر مدينة حلب ليستقرّ بمسقط رأسه، فيستقل حافلة مع مجموعة من السوريين الملاحِقين لأحلامهم، وتكون الرحلة فرصة لعرض ما خلّفته الحرب من دمار في المدن وفي الأرواح، أو فيلم «عبد» (2023) للمخرج السعودي منصور أسد، فيه تسافر الشخصية الرئيسة «صقر» عبر الزمن هروبًا من تدخّل المجتمع في حياته الخاصّة، ويمكن أن يكون أقرب إلى أفلام الخيال العلمي. لا شكّ إذن أن العودة إلى مفهوم الملحمة في أصل منبتها الإغريقي وإلى مفهوم الملحمي في استعمالاته المختلفة كفيل بتوضيح هذا اللبس وتدقيق لغة النّقد.
تُعرَّف الملحمة بكونها قصة شعرية طويلة رمزية تَسرد عبر تعاقب الأحداث حكاياتٍ بطولية، فتتضافر فيها أفعال جماعات بأكملها في بناء الأمة والمجتمع، وتحيل على الماضي وعلى كون بعيد رجاله من الأبطال العظام، وتعبّر عن المشاعر المشتركة لقوم في عصر من العصور، ويذكرنا معجم لاروس، بكونها «سُميّت لفترة طويلة بالقصيدة البطولية» وبأنها «قصيدة طويلة النفس مدارها على موضوع بطولي» وأن هذا الاصطلاح أضحى عبر التوسع يُطلَق على «سلسلة الأعمال البطوليّة أو العجيبة أو المبهرة»، فيتفوق فيها البطل على الأعداء ويعيد النظام ويموت بطريقة مأساوية.. وظهرت الملاحم في مرحلة مبكرة من التّطور البشري، فكانت تعرض قصصًا جديرة بالتخليد ووقائع قوميّة عظيمة قوامها الصّراع الجسدي، وتشارك فيها الأمة جمعاء، فيتعاون أبطالها الفريدون الذين يتجاوزون المعايير المعروفة في الشجاعة والبسالة مع الآلهة لمواجهة الأشرار والمارقين. لذلك، مثّلت الحرب الوضعية الفضلى لأعمالها، وكانت من ورائها تعرض، بنبرة عالية، صورةً للوعي الجماعي فـ«تنتظم بالاستناد إلى آراء مشتركة حول حاضر الإنسانيّة ومستقبلها1. وتبحث عن كليّة مفقودة وعن مثال مفقود وتطمح لاستعادتهما»2.. وكثيرًا ما استدعت قوةُ أبطالها العجيبَ أو نزعت نحو الأسطوري والخارق، منها «الإلياذة» و«الأوديسة» لهوميروس الإغريقي و«الشاهنامه» لأبي القاسم الفردوسي الفارسي.
للملحمة خصائص فنية مميّزة، فإنها تحاكي الوقائع عبر لغة شعرية تُصاغ في شكل سردي وعبر الإيقاع والصور البلاغية، فتعرض أحداثًا كثيرة متفرعة متشعبة تميل بجلاء إلى الإسهاب والطول من جهة الكم.. ويقتضي السرد الملحمي، لطول الأثر وتنوع الأحداث وإحالته على مختلَف شرائح المجتمع، وجود شخصيات عديدة. وتحثّ أحداثها على الاعتبار وتُقدّم للمجموعة سلم قيمها المستمدّة من وسط لامتناهي العظمة، كثير التفاصيل وضمن ماض عضويّ موحّد لا فصل فيه بين الذّات والموضوع .
وفيها تُروى الأحداث المختلفة في وقت واحد، ويؤثر مثل هذا التنوع في حبكها وفي وحدة أفعالها. وعلى خلاف التراجيديا، يمس اختلاف الأحداث من تماسك بنائها العضوي ويخلق نصًا هجينًا يخلط بين السّرد والحوار3، فلا نجد لدى البطل الملحمي أي اعتراض على المصير أو مقاومة للآلهة. والآلهة نفسها لا تمثّل قوى خارج الطبيعة بقدر ما تنجذب إلى دائرة الأحداث الإنسانية. وهكذا تتخذ الملحمة طابعًا مطلقًا. ولما كانت معنيةً بنتائج الصراع لا برمزيته وأبعاده، تتحقق فيها المعادلة المطمئنة، بحيث تنتصر الحرية دون أن تنهزم الضرورة وتنتصر الضرورة دون أن تنهزم الحرية4.
ولا يعمل الأدب الملحمي لإثارة كوامن الروح وتهييج انفعالاتها، وإنما يسعى إلى أن يتركها هادئة، فيسرد الراوي أحداثه من خارج الحكاية معتمدًا ضمير الغائب، ويظلّ يحرّض المستمعين باستمرار على الانخراط في التّقبل الهادئ المفعم بالاطمئنان، دافعًا إلى التعاطف مع بعض الشخصيات دون غيرها. وهكذا تعكس الملحمة المرحلة الحسيّة من الوجود البشري لمّا كان الفرد هادئًا مطمئنًا يجد في الآخر امتدادًا له ضمن وحدة كليّة موضوعية، قبل أن تعصف به أسئلة التراجيديا المحيّرة ووعيها الشقي.
تتساءل كل من كريستين شاميو وإيزابيل قيوم: «وقد انقرض الجنس الأصلي، فهل انمحى النّفس الملحمي نهائيًا من الأدب... ألم يؤخذ إلى فنون أخرى أو إلى مجالات أخرى من الإبداع الإنسانيّ؟»5. ومردّ السؤال إلى انصراف العصر الحديث عن الجماليات الكليّة والأصول المؤسسة6، متأثرًا بما شهد من تطوّر ومن أزمات وقطائع إبستيمولوجيّة، في ظلّ تفكّك مجتمعاتنا. ولا بدّ أن يحضر إلى أذهاننا هنا تسرّب خطاب الملحمة إلى الرواية7 والمسرح والسينما.
لا يعدم المتمعّن في جماليات السّينما وجود أفلام تُصنَّف ضمن النّمط الملحمي كما أسلفنا، فتجزم ناتاشا لورون بأنّ «الخصائص الملحميّة للسينما السّوفيتية التي تقدَّم على أنها سمتها الأكثر حداثة وأكثر تميّزًا، على صلة باهتمامها بالتّاريخ الرّوسي»8 ومنها خاصّة منجزها السّينمائي عن الثّورة البولشيفيّة وبناء الدّولة الشّيوعيّة. ويتخذ جورج سادول من «القسم»9 (1946) نموذجًا لهذه السّينما، فيجد أنّ «الفيلم بأسره يمجّد ستالين. فيتميّز ببساطته الدّراميّة التي تجمع بطلًا جليلًا محاطًا بالحشود الجماهيريّة، إنه البطل الذي "يقود المعركة وينتصر" .. وبالبساطة التي تخدم هدفًا واحدًا هو "الحقيقة الملحميّة للسعادة السّوفييتيّة"».10
لقد اختفت الملاحم بمفهومها التقليدي بالفعل، فلا تُطلَق اليوم على بعض الأعمال إلا على سبيل المبالغة، وإن مثّلت اقتباسًا للملاحم الإغريقية شأن فيلم «طروادة» (2004) الذي أخرجه وولفغانغ بيترسن عن «الإلياذة». ومقابل اختفائها ظهر الملحمي وتسرّب في أعطاف الرواية الكلاسيكية خاصّة، ويُفهم الملحمي هنا بكونه تلك اللبنات الدنيا التي يُنتِج اجتماعُها في نصّ متكامل الملحمةَ والتي باتت اليوم تتسرّب منفردة إلى أعطاف الفنون وأنماط الخطاب، ولكنّها تحافظ على صلتها بالأعمال الجليلة والظفر المبهر وتجعل الحرب عامّة موضوعها الأثير، فلا تركز على نتائجها المدمّرة بقدر ما تبحث في حسن بلاء الأبطال عند خوضها، أو تعمل عبرها على تجسيد عظمة الأمة واستماتتها في دفاعها عن قيمها أو عملها على نشرها بقوّة محاربين لا يواجهون الأعداء فحسب، وإنما الطبيعة أيضًا. ويتّخذ التحدي عندهم بُعدًا جسديًا وتنتهي مجازفاتهم المبهرة إلى النّصر المبين الذي يتجاوز ذواتهم الفردية ليشمل الأمة بأسرها.
يُستمدّ المعنى الثاني للملحمي، الذي وجدناه في أفلام «آخر فيلم» و«جنينة الأسماك» و«مسافرو الحرب» و«عبد»، من الشّكل الذي طوّره برتولد بريشت، فقد رفض المسرحي الألماني الشّكل الدرامي لبنائه العضوي ولترابط أحداثه ترابطًا سببيًا، فهذا الشّكل، عنده، يضاعف من نزعته إلى أسر المتفرّج عبر التشويق ويستفرغ نشاطه الفكري والنقدي ويستلب وعيه ويجعله مستسلمًا للواقع السائد عاجزًا عن الفعل مكتفيًا بالتفاعل الوجداني مع أحداث تتوالى مترابطة متلاحمة. أمّا الشكل الملحمي، الذي يجعله بديلًا له، فيورد الأثر السينمائي في شكل تركيب مقاطع سردية وقفزات تخلّف فجوات في الزّمن وتهمّش الحبكة القصصيّة11، وتنوّع من موارد السّرد الفيلمي، فيتحوّل الممثّل إلى حكواتي يقص أكثر مما يفعل كما يريد له أرسطو، وكثيرًا ما ينفصل عن الشخصية ليناقش العمل أو الدور ويعمل باستمرار على منع المتفرّج من الاندماج الوجداني الكلي في عالم الأحداث، كما يفعل النوري بوزيد مع الممثل لطفي العبدلي في «آخر فيلم» حينما يحشر مشهدًا مصطنعًا في سياق الأحداث ويقدّمه على أنه نقاش دار في الكواليس بين المخرج والممثل حول الأبعاد التي ترمز إليها شخصية بهتة، أو كما يفعل عمرو واكد وهند صبرى حينما يُقطع حبل السرد في «جنينة الأسماك» ويتدخّل كلّ منهما ليشرح سبب تقمّصه للشخصية التي يؤديها على النحو الذي يراه المتفرّج والمعاني التي حاول أن يثيرها في ذهنه، فيبقى نشاط هذا المتفرّج الفكري متيقّظًا، ويُحرّض باستمرار على الانخراط في مناقشة التصوّر الذي يقترحه الفيلم وعلى اتخاذ موقف منه. وعامّة يخاطب الملحمي العقل ويدفع إلى الحكم على الواقع والعمل على تغييره، وهذا ما يصطلح عليه بريشت بالتّبعيد ويشير إليه بالمؤثر V12، وقد عرّفه جون ميشال لوك، حين بحث في تاريخ المفهوم وفي تحوّلاته، بأنه «الميزة الأكثر عمقًا للجنس البشري وأنه من بين الميزات التي "تنتزعنا" من الحيوانيّة، فالإنسان يولد [مزوّدًا] بهذه القدرة الفريدة التي تخوّل له أن يعرف ما يفعل في الوقتِ الذي يأتي فيه الفعلَ، نفسِه».13
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش
1.Christine Chamiot- Poncet et Isabelle Guillaume: L’épique, éd Ellipses, Paris 2000, P 84
2.«ويرتكز شعر العصر البطولي الذي كانت الملاحم الهوميريّة تظاهرته النّموذجيّة، إلى ذلك السّؤدد الذّاتي، إلى ذلك النّشاط العفوي للبشر، الآمر الذي يعني في آن معا أن "[الفرد البطولي لا ينفصل عن الكلّ المعنوي الذي إليه انتماؤه، ولكن من دون أن يتمتّع بوعي لذاته إلا من حيث إنه وحدة جوهريّة مع ذلك الكل]"». جورج لوكاتش: الرّواية كملحمة بورجوازيّة، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطّليعة، ط 1، بيروت 1979، ص 30 والاقتباس الوارد في القولة يأخذه لوكاتش عن هيغل من أثره «علم الجمال».
3.يعرّف أرسطو الملحمة من خلال حبكتها فيقول: «أما عن المحاكاة التي تقوم على السرد وتستخدم الوزن الشعري فمن الواضح أنّ حبكتها ينبغي أن تنبني كما هو الحال في التراجيديا على أصول دراميّة: أي يجب أن تدور قصتها حول فعل واحد، تام في ذاته، وكامن وله بداية ووسط ونهاية، متكامل في ذاته». أرسطو: فن الشّعر، ترجمة إبراهيم حمادة، مركز الشّارقة للإبداع الفكري، دت، ص 197. ويقارنها بالتراجيديا، فيلح على أنها تختلف عنها من جهة الوزن فلا تستخدم غير وزن واحد، ومن جهة نمط القص فلا تصاغ إلا في شكل سردي، ومن جهة الطّول فلا يتحدّد فعلها بزمن معلوم شأن التراجيديا. ص 89.
4.راجع ما ذكرناه حول فلسفة التراجيديا من مقالتنا «رحلة التراجيديا من المسرح إلى السينما».
5.Christine Chamiot- Poncet et Isabelle Guillaume: L’épique, P 3
6.م. ن. ص 3.
7.ويجد لوكاتش امتدادًا لهذه الملحمة في الرواية. لذلك، يصفها بالملحمة البورجوازية، فرغم أنّ بطلها إشكالي، فإنه لا يكف عن استهداف الكلية فـ«لا يعود الاختلاف بين الملحمة والرواية الممثلتين للأدب الملحمي الكبير – إلى الحالات الباطنة للكاتب وإنما إلى المعطيات التّاريخيّة الفلسفيّة التي تفرض نفسها أثناء إنشائها. إن الرواية ملحمة زمن ما عادت كليّة الحياة المتمدّدةُ تمنح بطريقة مباشرة. وملحمة زمن غدا فيه المعنى مشكلًا رغم أنه ما فتئ يستهدف هذه الكليّة».
8.لمزيد من التّوسّع انظر Natacha Laurent :Le cinéma stalinien, questions d’histoire,1éd PUM Toulouse, 2003 P63,
9.فيلم «القسم» Le serment الذي أخرجه Tchiaourelli
10.انظر Natacha Laurent: Le cinéma stalinien P223.
11.يجب أن تترابط الأحداث ولكن تبقى الحلقات بارزة بجلاء، بما أنه لا يطلب من الجمهور الغوص في الحكاية كما في جدول ليلقي به هنا أو هناك حسب رغبة التّيّار. ولا يجب أن تتعاقب بشكل خفيّ. [بل] ينبغي أن يظلّ المتفرّج قادرًا على الحكم على الأشياء في الفاصل.. إذن فمن المناسب أن تتضاد مختلف عناصر الحكاية بعناية فنمنحها بنية خاصّة، بنية الأثر داخل الأثر Bertolt Brecht : Ecrits sur le théâtre, tome 2, L’arche, 1969, P.P 201-202.
12.ويعرّفه عبر المثال فيفترض أن يسأله أحدهم: هل تنظر أحيانًا إلى ساعتك؟ فيكون سؤاله هذا سبيلًا إلى إعادة اكتشاف الساعة من جديد بعد أن شغله عنها الإلف والدأب la revue Europe de janvier-février, 1957, p. 201.
13.Jean-Luc Michel : La distanciation: essai sur la société médiatique, P 123.