أوراق سينمائية

الوثائقي التخييلي: النمط السينمائي الهجين

ظهر عَلَمان مؤثران في بدايات السينما الوثائقية، وكان لكل منهما أسلوبه الخاص، فقدّم روبرت فلاهيرتي أفلامًا وثائقية تعرض حياة التجمعات البدائية، وجعل من تجارب أفرادها ومن أسلوبهم في الحياة سبيلًا لنفهم فطرتنا بشكل أفضل. لذلك صُنّفت أعماله لاحقًا ضمن الأفلام الإثنوغرافية كما ورد في ورقاتنا السّابقة. واعتمد أسلوبًا يمزج بين الحقيقي والمتخيّل، ويوظّف الإيهام لعرض الحقيقة، ومن ثَمّ  كانت شخصياته مزدوجة الانتماء، فهم أفراد يعيشون حياتهم اليومية، وفي الآن نفسه هم -على نحو ما- ممثلون يتقمّصون أدوارًا فيقدّمون الحدث المصطنع على أنه الحقيقة. وفهم دزيغا فيرتوف السوفييتي السينما الوثائقية باعتبارها عرضًا محضًا للحقيقة ولفواصل من الحياة. ولكنّ الأثر الحاسم في ضبط تصوّر هذه المرحلة للفيلم الوثائقي يعود إلى الإسهام التنظيري الفاعل لجون غريرسون، فسادَ فهم السينما الوثائقية بكونها أفلامًا «تسجّل الواقع والحقيقة كما هي تسجيلًا أمينًا، صادقًا، دون تحوير أو تزييف». واستقرّ في الأذهان أنّ «أهم إدانة للفيلم التسجيلي هي نعته بكونه خياليًا... أي مفتعلًا.. وذلك من أجل جذب الجمهور دراميًا، أو بمعنى أدق، إن تقديم الحقيقة تعني بالنسبة إلى التّسجيليين جمالًا يفوق بكثير الجودة والإتقان الشّكلي».


ولكن البحث النظري يظلّ «عَقَب أخيل» السينما ونقطة ضعفها، فجميع ما يُكتب حولها يظل مشروطًا بجانبها الصناعي التكنولوجي والوسائطي المتحوّل باستمرار، فالتطوّر على مستوى معدات التصوير الذي سمح بحمل الكاميرا بيُسر زجّ بالمخرج في لجّ الأحداث وسمح له بأن يلتقط العالم ضمن ما بات يُعرف بالسينما المباشرة وسرّب تجربته ورؤيته الشّخصيّتين في أعطاف الفيلم بجلاء أكبر، فخوّل له إمكانية التّدخل المباشر للتعليق على الأحداث أو لتنبيه المتفرّج إلى ناحية من النّواحي، وأسهم في ظهور نزعة مقاومة لصفوية البدايات التي تجعل موضوعية المخرج المقوّم الجمالي الأول عند المفاضلة بين الأفلام، فقد كان المخرج الإثنوغرافي الفرنسي جون روش مثلًا يجعل شخصياته ترتجل المواقف المتخيلة أمام الكاميرا ويغيّر من المعادلة حينما عرّف سينما الحقيقة بكونها ليست الحقيقة في السينما، وإنما الحقيقة، كما تراها السينما.


وفي الثمانينيات انتشر التلفزيون على نطاق واسع، وعمل على شدّ المتفرّج بكل الوسائل. فنشأ ما بات يعرف بـ«تلفزيون الواقع» الذي يمزج بين الواقع والتخييل، وأخذ ينتج برامج بتكلفة أقل تساعده على ربح معركة الإشهار بين القنوات المتنافسة، فممّا يُروى عن جون دارسي (Jean D’arcy) عندما تولى إدارة برمجة إحدى القنوات الفرنسية أنه قال في كلمة مرجعية تَوَجّه بها إلى المخرجين العاملين بالقناة: «سادتي، لا يمكن للجمهور الاستغناء عن التّخييل كما لا يمكنه الاستعاضة عن الحلم. وبالمقابل فإن جماعة السّينما يمنعونني من عرض أفلامهم الطّويلة حذر أن يخلي ذلك قاعاتهم. اصنعوا لي بواسطة آلات الكاميرا فيديو والاستوديوهين المتاحين لكم -فضلًا عن الدّيكورات والممثّلين- شيئًا ما يشبه ما أمكن الأفلام التي لا يمكنني برمجتها. لا يمكنني أن أمنحكم كثيرًا من المال. تصرّفوا..»


يمثّل الفيلم الوثائقي «اغتيال JFK ملفات جيم غاريسون» عينة جيّدة لاقتحام التخييل للمادة الوثائقية واستقراره في بنيتها العميقة، فهو يتبنى أطروحةً مدارها على أنّ اغتيال كينيدي تم بتخطيط محكم وبتواطؤ عدد كبير من الأفراد والأجهزة، ويرصد الحقائق التي تدفعنا إلى إعادة التفكير في مضمون لجنة وارن (Warren) الذي يقدّر أن قنص أوزوالد (Lee Harvey Oswald) للرئيس الأمريكي كان تصرّفًا فرديًا وتمّ بدافع إيديولوجي.
في الطبقة العميقة من هذا الفيلم تتحوّل الأطروحة إلى قصّة تتحقق وفق منوال الفواعل منه وتتوفّر فيها مختلَف شروط البرنامج السردي بحسب سيميائيات غريماس السردية، فيمثل جهازا وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) ومكتب التّحقيقات الفيدرالي (FBI) مُرسلًا يتواصل مع طائفة من القتلة والمرتزقة، ومن بينهم أوزوالد قاتل كينيدي وجاك ريبي قاتل أوزوالد، باعتبارهم مُرسلًا إليه. ويشكّل أصحاب الأموال والنّفوذ في المخابرات المركزية ومعارضو كاسترو ذاتًا تريد للحروب أن تستمر بلا نهاية، وتجعل من ريعها موضوعًا ترغب في الحصول عليه، وتمثّل المؤامرة مساعدًا يكفل التّخلص من كينيدي صاحب السياسة المهادنة للاتحاد السوفييتي بعد أزمة خليج الخنازير، فيما يشكّل ميل كينيدي للسلام وتراجعه عن حرب فيتنام معرقلًا يحول دون تلك الذّات والاتصال بموضوعها.
ولا يخلو الفيلم من التقلبات التي تدفع بالتشويق إلى ذراه، فأوزوالد مثلًا يتحوّل فجأة من مساعد مكلّف بتنفيذ جريمة الاغتيال إلى عنصر معرقل يجب أن يتمّ التّخلص منه، ويستهدف الاغتيال مصير كل من يسلّط عليه المحقق جيم غاريسون الضوء، فيقع إخراجه من المشهد والتخلّص منه بموت مشبوه.


سرت صفوية في الفيلم التخييلي موازية لصفوية وثائقي البدايات، فكان وصفه بالتقريري يعدّ وصفًا قدحيًا، وكان الاعتقاد بأنّ المسافة التي تفصل التخييل عن التسجيل بعيدة جدًا، ولكن ظهرت منذ سبعينيات القرن الماضي أفلام تخييلية تلجأ إلى المادة الأرشيفية التّاريخيّة وتجعلها مكوّنًا من مكوّنات عوالم قصّها، فكان المخرج ينتزع الوثيقة القديمة من سياقها الأصلي ويزجّ بها في سياق العرض. ولم يجد النّقد بُدًّا من مراجعة تصوّراته فأقرّ بأن التقرير والتوثيق يتسرّبان إلى الفيلم التخييلي من مستويات عديدة، ففنون القصّ لا تخلق العوالم الممكنة إلا انطلاقًا من عالمنا القائم وإن أسرفت في الخيال وصنعت القصة العجيبة أو قصّة الخيال العلمي. ومبتكر الحكاية لا يقصّ قصّته إلا وهو يحاول بواسطتها أن يتأول العالم من حوله وأن يعيد ضبط أفكاره بشأن سكناه هو في هذا الوجود. وانتبه هذا النّقد إلى أنّ هذا البُعد التوثيقي لا ينفكّ يتعاظم في الفيلم التخييلي بمرور الزّمن حتى يكاد يحوّله إلى فيلم وثائقي صرف، فلا شكّ أننا حين نشاهد فيلمًا تخييليًا صُوِّر في مدينة عربية في ثلاثينيات القرن الماضي سنهتم أكثر بالعمارة القديمة والطرقات وموديلات السيارات -إن وُجدت- والملابس وطرائق التواصل. وهذا يعني أننا سنسقط عليه أفق انتظار الفيلم الوثائقي قبل أن نتعامل معه باعتباره حكاية متخيّلة.


كثيرًا ما استند الفيلم التخييلي  JFK الذي يتبنى الأطروحة نفسها التي دافع عنها الفيلم الوثائقي «اغتيال JFK ملفات جيم غاريسون» إلى الوثائق والأرشيف ليذكّر بمجمل من الوقائع التّاريخيّة، كموقف الرئيس كينيدي من حرب فيتنام وتربص المخابرات المركزية بكوبا لزعزعة حكم كاسترو والثأر من فشلها الذّريع في غزوة خليج الخنازير وتقرير الجيش بشأن انتماء أوزوالد إلى معارضي كاسترو والبحوث الاستقصائية التي قام بها الصحفي الأمريكي المستقل جيم مارس ووثائق عن العلاقات التي جمعت أوزوالد بعميل سابق للشرطة الفيدرالية ومَشاهد من اغتيال الرئيس كينيدي وصفحات من مؤلف جيم غاريسون On the Trail of the Assassins، فيعمل على جعلها خلفية للمتفرّج يستند إليها في فكّ شفرات ما سيعرض عليه من الوقائع تصويبًا للقراءة وتوجيهًا لعمل تأويله الوجهة التي تدحض تقرير وارن. وبالجملة فقد كان الفيلم يدسّ باستمرار هذه المواد الأرشيفيّة في سياق الأحداث المتخيلة أو المحاكية للوقائع كما عُرضت في الجرائد وفي التقارير ويحوّل ظهورها إلى حوافز للدفع بالحدث الرئيس. وانطلاقًا منها اجتمعت في الأثر الجريمة والحافز على ارتكابها وطريقة تنفيذها والضّحية والمتهم والمحقّق، وتحوّل الجنس البوليسي إلى بنية عميقة يستند إليها.


وهكذا عاد الجدل حول الحدود بين الوثائقي والتخييلي ومدى موضوعية الفيلم الوثائقي وقدرته على التقاط الحقيقة المحض إلى الواجهة من جديد، وانتبه النّقاد إلى أنّ الأفلام التي تناهض السرد لم تكن تخلو من السّرد ومن حبك الأحداث على نحو ما وأنّه لا قبل للمخرج بأن يمنع التوثيق والتقرير من أن يسربا إلى عالمه المتخيّل. ومثّلت هذه العودة حبل نجاة لأفلام وثائقية عديدة لتواجه ندرة مواردها البصرية، فأصبحت تعوّل على ممثلين يحاولون محاكاة الوقائع وسيناريوهات تعيد بناء الأحداث وتصطنع المحتمل وتقدّمه بديلًا للحقيقي لسدّ الفجوات في الموضوعات المطروقة وتختلق الوضعيات الدرامية المؤثرة. وشيئًا فشيئًا انطمست الحدود بين التخييلي والوثائقي وظهر نمط سينمائي هجين اصطُلح عليه بالوثائقي التخييلي أو الوثائقي الدرامي. ويشير مؤرخو السينما إلى فيلم «فندق الحديقة» لبيار بيشو باعتباره الوثائقي التخييلي الأول. ثم تحقّق النجاح الكبير لفيلم «أوديسا الأنواع» ، وهو فيلم وثائقي عن عصور ما قبل التاريخ، يعرض التاريخ التطوري للسلالة البشرية على مدار السبعة ملايين سنة الماضية، وحتى الإنسان العاقل تم تصويره تحت الإشراف العلمي لإيف كوبينز.


يمكن أن نعرّف الفيلم الوثائقيّ - التّخييلي إذن بكونه نمطًا سينمائيًا هجينًا يختلق القصص والوضعيات الدرامية انطلاقًا من معطيات واقعية ومن سيناريوهات دقيقة ويسخّر لها الممثلين المحترفين غالبًا لتجسيدها. وكما في الفيلم التخييلي، يحتاج هذا النّمط السينمائي إلى الأزياء المناسبة ويبني الديكورات الخاصّة كلّما اقتضى السياق. وانطلاقًا من قصصه تلك ومن وجهة نظر جمالية وفكرية، يحاول أن يعيد بناء الحقيقة وتمثيل الوقائع كما في الفيلم الوثائقي.


ولظهور التلفزيون دور حاسم في انتشار هذا النّمط الجديد، فضمن حرب التنافس التي نشأت بين القنوات، كان يسهم في إنتاجه ويعمل على عرضه لتنوع مقارباته ولقدرته على الاستجابة إلى تطلّعات مختلَف أفراد العائلة وجمعهم حول القناة الواحدة. ولئن ظلّ جنسًا مجديًا ماليًا لفترة فإنه لم ينل الاعتراف الفني، ولم يستطع أن يثبّت نفسه في التظاهرات العالمية وفي المهرجانات الكبرى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

محمد علي الفرجاني:  فن الشريط التسجيلي، الدار العربيّة للكتاب، ط 1، تونس ليبيا دت، ص 26،  يستعمل مصطلح الشريط التسجيلي.

 غادة جبارة: مدارس الفيلم واتجاهاته، ضمن الفيلم الوثائقي: قضايا وإشكالات ص 56-57.

 Marcel Bulwal : Un aller, Stock 1975, P 128.

 (The JFK Assassination: The Jim Garrison Tapes) وثائقي للمخرج  John Barbour (1992) يفترض أنّ اغتيال الرّئيس الأمريكي كينيدي قد تمّ وفق مؤامرة دبّرتها أجهزة الدولة ويحقّق في بعض الدلائل التي تؤيد هذه النّظرية رغم فشل صاحبها في إقناع القضاء بجدواها.

 «تطلق عبارة البرنامج السردي عند غريماس (Greimas, 1966) على تتابع الحالات والتحولات التي تترابط انطلاقًا من علاقة بين ذات معينة وموضوع محدد وما يطرأ عليها من تحوّل فالبرنامج السردي يضمّ عددًا من التحوّلات المترابطة التي تندرج في سلّم تراتبي». محمد القاضي (وآخرون):  معجم السرديات دار محمد على للنشر ط1، تونس، 2010 ص 50.

 فيلم JFK من إخراج Oliver Stone سنة 1992 وملخّصه أنّ المدّعي العامّ لنيو أورليانز جيم غاريسون يشكّك في تقرير لجنة وارن التي انتهت إلى أنّ أوزوالد ارتكب جريمة اغتيال الرئيس الأمريكي كينيدي منفردًا، فعمل على تأمين تحقيق ثانٍ يثبت أنّ اغتيال الرّئيس الأمريكي كينيدي قد تمّ وفق مؤامرة نسجت خيوطها وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) ومكتب التّحقيقات الفيدرالي (FBI).

 Hôtel du Parc (1991) إثر إعدام عنصرَي الميليشيات السابقين، رميًا بالرصاص في ضواحي بوردو في 2 يونيو 1953، ينطلق صحفيان في البحث عن كبار المسؤولين من حكومة فيليب بيتان التي حكمت لأقل من شهر في صيف 1940، خضم الغزو الألماني لفرنسا في بداية الحرب العالمية الثانية، وكانت تناصر عقد هدنة مع الألمان عكس الجينرال ديغول. يأخذهما التحقيق إلى مناطق في باريس وضواحي بروكسل وبرشلونة، ويعقدان لقاءات مع موظفين من فندق الحديقة. ولكن هذا التحقيق لم يحدث مطلقًا على أرض الواقع، فهو تعلّة اعتمدها مؤلفو الفيلم لاستجواب بعض المشاركين في أحداث فيشي فرنسا الذين اختفوا الآن، والتصريحات المنسوبة إليهم مستوحاة من كتاباتهم أو من تقارير محاكمتهم أو شهاداتهم المثبتة.

 L'Odyssée de l'espèce فيلم تلفزيوني وثائقي تخييلي فرنسي كندي من إخراج جاك مالاتير.

د. أحمد القاسمي
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا