نشأت الإثنوغرافيا في مباحث الإنسانيات وجعلت موضوعها دراسة المجتمعات الصغيرة أو الجماعات العرقية دراسة علمية ميدانية مباشرة، فكان الدّارس ملزمًا بالعيش مع المجتمع المنعزل، موضوع دراسته، لفترة طويلة من أجل فهم ثقافته. ولأنّ العلوم والفنون تتفاعل باستمرار عبرت من الحقل العلمي إلى السينما، فظهر الفيلم الإثنوغرافي جنسًا وثائقيًا عميق الصّلة بمنابته العلمية الأولى، وتطوَّر بتطورها، فأصبح يُعنى بدراسة مجتمعات بعينها داخل مجتمع الباحث أو السينمائي نفسه، بحيث ينغمس كلاهما فيها لملاحظة سلوك أفرادها بطريقة دقيقة وموثوقة المعاينة المباشرة، ويسجّل تفاعل أفرادها أو يراقب ما تعقده من الاتفاقيات.
لقد أضحت الإثنوغرافيا اليوم تعتمد، سواء في الحقول العلمية أو السينما، سبيلاً لفهم عالم المجموعات الصّغيرة التي تختار العيش على هامش المجتمع، كالعصابات أو مجموعات كرة القدم ومجموعات رقص الشوارع، فتستند إلى الوصف والسرد الثّريين اللذين يلتقطان التفاصيل الفارقة ضمن تقارير مكتوبة أو مصوّرة، ثم تتولى الإثنولوجيا تحليلها للوصول إلى القواعد والصيغ الشكلية، وهذا وجه اختلافها الجوهري عن الدراسات التي تستند إلى النظريات وإلى اختبار الفرضيات استدلالاً أو استقراءً.
ورغم نشأة الفيلم الإثنوغرافي في مفترق تقاطعات المباحث الإثنوغرافية والأنثروبولوجية والإثنولوجية، فإنه لا يبدو معنيًا بما بينها من الاختلافات، فبعيدًا عن متاهاتها النظرية -التي تعني الباحث المختصّ- يفيد هذا الجنس السّينمائي إظهار قدرة الأفلام الوثائقية على الاقتراب من الواقع والتقاط تفاصيله، فتتقاطع وظيفة التوثيق فيه مع فكرة الوصف في هذه الدراسات العلمية وتتكامل معها، ومن ثمّ كان تعليق السارد يتضمن الوصف والتحليل واستقراء الملاحظات الميدانية، وكان السينمائي يعرض تجاربه الشخصية ومشاعره أثناء معاينة الظواهر، ويعوّل في كلّ ذلك على بديهته وخبرته، فـ«يكون معنى الأفلام الوثائقية العلمية هو كذلك كل اشتغال توثيقي على معطيات الواقع الثقافية والعقائدية والاجتماعية، وهذا بالضبط ما بلورته مجهودات من داخل تخصصات السوسيولوجيا والإثنوغرافيا والأنثروبولوجيا والتي نمثل لها بتجربة الفرنسي جان روش الذي جاء من تخصص الإثنوغرافيا ليغني السينما الإثنوغرافية والأنثروبولوجية باعتبارها سينما وثائقية علمية انشغلت بتقديم الأوجه الخفية لعوالم أفريقيا والتي أثارت الكثير من الاهتمام وحتى ردود أفعال السينمائيين خاصة الأفارقة منهم».
للفيلم الإثنوغرافي صلة عميقة بالأنثروبولوجيا المرئية، ولكنّ الاختلاف بينهما يظلّ قائمًا، فمَن يقف وراء الكاميرا في الفيلم الإثنوغرافي هو مخرج بالأساس وإن استوجب عمله الخلفيات الإثنوغرافية العميقة، وجمهوره هو جمهور السّينما بتطلعاته الجمالية، أما الأنثروبولوجيا المرئية فهي مرحلة من مراحل البحث الأنثروبولوجي العلمي، يستعمل فيها الباحث التصوير الفوتوغرافي أو الفيديوهات بدل تعويله على الوصف اللغوي بحثًا عن الدّقة والأمانة أو لرصد تفاصيل لا يتسنى له أن يلتقطها باعتماد الكلمة.. وعليه يكون انتماؤها إلى العلم أوثق منه إلى السينما، ومَن يقف وراء الكاميرا هو العالِم وإن استوجب عمله المعرفة السينمائية العميقة. والإشكال الذي يُطرح هنا، أيُّ النظامين أفضل؟ هل يكون النظام اللغوي الذي يعوّل على عقل يميّز التفاصيل ويختار العناصر التي يريدها، أم النظام البصري الذي يلتقط المشهد في كليته وبكلّ تفاصيله ويترك المسؤولية للمُعاين، غير الميداني، لينتقي العناصر الدّالة من الموضوع المصوّر؟
تُعدّ السينما الإثنوغرافية سينما نضالية، فهي تشتغل في المجال الثقافي عمومًا، ولكنها الثقافة بكونها ما ينشأ عن مجمل تجارب مجموعة بشرية ومنتجاتها الاجتماعية، أو بكونها مجمل الخبرات التي توظّف ما زوّدتنا به الطبيعة من المواد الخام، فتعمل على التعريف بالثقافات المختلفة دون أن تفاضل بينها وتدافع عن التنوع الثقافي، وتناهض العولمة التي تعمل على فرض الأسلوب الغربي المادي تصورًا أوحد للإقامة في الوجود.
ومن تبعات هذا التصوّر حث المتفرّج على الإيمان بأن قسمًا كبيرًا من سلوكنا البشري ناشئ من العادات والتقاليد، وأنّ كثيرًا من الردود التي نتخذها فتبدو غريزية تشتمل على كثير من المكتسب، في ظلّ سياقاتنا الحضارية والتاريخية المخصوصة، فغيرنا في ثقافات أخرى، لا يتصرّف بالطريقة نفسها التي نتصرف بها نحن. وهذا ما يحتّم علينا عقلنة سلوكنا من جهة، وبذل الوسع من الجهد لتفهّم الآخر وتنزيل سلوكه في سياقه الثقافي والتّاريخي من جهة ثانية، فيساعدنا على التعايش مع المختلفين عنّا في الفضاء الاجتماعي الواحد.
ولا ينفصل هذا الجنس السينمائي الوثائقي عن التحوّل الكبير في المباحث الإثنوغرافية والأنثروبولوجية وفي أهدافها، فقد نشأت هذه العلوم ضمن النظرية التطورية التي تعتقد بسمو عرق على آخر (خلقيًا- ذهنيًا- ثقافيًا- تقنيًا) وترى أنّ التفاوت بين الأعراق فطري له أسباب بيولوجية. ومن تبعاتها أن صنّفت المجموعات المتنافرة بعضها بعضًا بالبربرية وجعلت أعداءها في مرتبة دون البشر، ومثل هذا الاعتقاد برّر للأوروبيين في القرن التاسع عشر مثلاً الاستيلاء على خيرات البلدان المستعمَرة ومنحها «شرعية أخلاقية» لممارسة العنف ضدّهم والعمل على إلغاء وجودهم عبر التطهير العرقي أو الثقافي، ولكنّ العقل الغربي الذي صُدم بصعود النازية والفاشية العنصريين وكوارث الحرب العالمية الثانية، فرض المراجعات ضمن مبحثَي الطبيعة والثقافة الأنثروبولجيين، وحاول أن يحصّن نفسه ضد العنصرية، مقدّرًا أنّ ما هو ثقافيٌ، تاريخي بالضرورة، وأنه أُنتج ضمن شروط ما وأنساق ثقافية معيّنة.
وكثيرًا ما تُصنَّف بعض أفلام ضمن السينما الإثنوغرافية لاكتفائها بالتقاط تفاصيل حياة المجموعات، رغم أنّ مُخرجيها لا يحملون خلفية إثنوغرافية، ففيلم فلاهرتي مثلاً «نانوك الإسكيمو» (1922) Nanouk l'Esquimau يكتفي بعرض صراع عائلة بدويّة من شعوب الإسكيمو، من أجل ضمان البقاء في صحارى الثّلج القاسية من أقصى الشّمال الكندي، وتأتلف من نانوك الأب (ويعني اسمه الدب) وزوجته نيلا وأبنائه، كما ينقل الفيلم تفاصيل حياة العائلة من رحلات صيد أو طبخ أو احتماء بالمسكن من العواصف الثّلجية. ومن العجب أنّ هذا المسكن يُشيَّد من الثّلج نفسه (مثلجة).. أو فيلم «رجل من آران» (1934) L’homme d’Aran الذي تدور أحداثه على جزيرة أرخبيل آران قبالة سواحل أيرلندا، ويرصد الحياة اليومية لعائلة من الصيّادين يعملون على استصلاح أرض صخرية وتهيئتها للزراعة، فيحاول الأب كسر صخرها وتتولى الأم تسميدها بالطحالب التي تُلقي بها الأمواج، فيما يتسلّى الابن بصيد الأسماك، ثم يعرض الفيلم ما يحيق بحياتهم من الخطر، ففي يوم عاصف يخوض الأب معركة شرسة ضد سمكة قرش وتدمّر العاصفة زورقه ولا يتمكن من مغالبة الأمواج ومن الوصول إلى السّواحل والتقاء عائلته إلاّ بمشقّة.
ولكن ليس الفيلم الإثنوغرافي بالبساطة التي يوحي بها عرضنا لفيلمَي فلاهرتي، فهو يعمل على كشف طبيعة مجتمع ما لمجتمع آخر مختلف عنه بالضرورة، ولخصائصه الفنية دور في بلورة أفكاره، فالجمالي هو طريقة في التفكير في النهاية لا يمكن إقصاؤها. ولتأثير خصائص الكتابة وكيفية السرد وطريقة عرض الأحداث وحركة الكاميرا وزوايا تصويرها في جعلنا نتمثّل الموضوع على نحو يقدّره المخرج، طُرح السؤال بحدة حول طبيعة العلاقة بين الحقيقةِ التي يعمل الفيلم على عرضها والخيالِ الذي يسرّبه ذات المخرج طي اللقطات والمَشاهد.
فضلاً عمّا تقدّم، كثيرًا ما تصطدم تطلّعات السينمائي الإثنوغرافي بمعضلات أخلاقية يتعيّن على المخرج أن يجد لها الحلول الملائمة، فيطرح السؤال باستمرار عن مدى تيسّر الوصول إلى المجتمع الذي نرغب في دراسته، وعن كيفية تصويره، فهل يتمّ ذلك علنًا أم سرًا؟ وكيف لنا أن نعرض العناصر الحميمة من حياة أفراده؟ فغالبًا ما يرفض هؤلاء اقتحام الكاميرا لخصوصياتهم، فيمثّل تصويرُهم بطريقة سريّة عندئذ معضلةً أخلاقية، فلا يجوز لنا اقتحام خصوصيات الآخرين دون إذن منهم مهما كان هدف الفيلم نبيلاً. أما تغطية الوجوه فيمثّل حلاً وسطًا، فهو يحفظ لهؤلاء خصوصيتهم وكرامتهم إلى حدّ ولكنه لا يزيل الإشكال تمامًا، فشيء من استباحة حياة الآخرين يظل قائمًا وقطاع كبير من المعنى يُرسم على ملامح الشخصية، وبإخفاء هذه الملامح سيتلاشى، والتعليق الذي ينوب عنها يبقى عاجزًا عن تمثيل مختلَف تفاصيلها.
وقد يكون التصوير علنيًا، فيصنّف حينها إلى مفتوح، حيث يسمح أفراد الجماعة للكاميرا أن تلتقط ما تشاء، أو مغلق، يحدّ حريتها عند حدود بعينها تُقدّر عبر التفاوض مع عناصر المجموعة حول المسموح والممنوع. وفي الحالتين سيفقد المجتمع المصوّر تلقائيته حالما تحل الكاميرا بالفضاء، ويلجأ إلى التصنّع والضن على المراقب بجوهر حقيقته.
ولا بدّ للسينمائي من مساعدين أو شركاء ييسرون له النفاذ إلى عمق هذه المجتمعات أو اختراق العصابات التي تعيش بقاع المجتمع وغُرَفها السرية، ولا تخلو الاستعانة بهم من إشكاليات، فالتعويل على الشريك الواحد له سلبياته، فقد يتلاعب بالمخرج ويوجّه الفيلم لمصالحه أو لنظرته الخاصة للأمور، والتعويل على عدد من الشركاء قد يشكّل عبئًا ماليًا، خصوصًا أن الانخراط في هذه المجموعات وكسب ثقتها يستغرق وقتًا طويلاً، وأنّ السينما الإثنوغرافية سينما غير ربحية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش
1 لقد كان منطلق هذه الدّراسات السعي إلى تعميق المعرفة بثقافة الشعوب البدائية أساسًا في مناطق متباينة من العالم، وكان يُراد لهذه المباحث أن تجيب عن سؤال ضمني يحيّر العقل الأوروبي المتعالي هو «هل هؤلاء البدائيون بشر أم حيوانات وما سلالاتهم؟» ثم تنازل هذا العقل عن مركزيته، فتطوّرت هذه الدراسات عندئذ وأصبحت أكثر إنسانية.
2 المركز الوطني الفرنسي للموارد النصية والمعجمية: https://www.cnrtl.fr/definition/ethnologie
بين الإثنوغرافيا والإثنولوجيا والأنثروبولوجيا كثير من التّداخل على مستوى التحديد النظري فحسب وعلى مستوى الممارسة أيضًا، وإن اختلفت المقاربات من باحث إلى آخر، ولكن عمومًا وبشيء من الاختزال يمكننا أن نساير التحديد الذي يقدّمه المركز الوطني الفرنسي للموارد النصية والمعجمية حين يرى أنّ «الإثنولوجيا والإثنوغرافيا هما3 نهجان متمايزان ومتعاقبان، أحدهما، الإثنوغرافيا، من النوع التطبيقي، والآخر، الإثنولوجيا، من نوع أكثر شكلانية وانعكاسية» (https://www.cnrtl.fr/definition/ethnologie) وأنّ «علمي الأنثروبولوجيا والإثنولوجيا ليسا متعارضين في جوهرهما، فهما يمثلان جزءًا من المجموع نفسه، [بحيث] يمثّل التعرّف إلى كل بيانات الأنثروبولوجيا، على نحو وصفي، ضروريًا لحل المشكلات العامة للإثنولوجيا، أي لتاريخ الشعوب» (https://www.cnrtl.fr/definition/ethnologie).
حميد تباتو: الفلم العلمي العربي، ضمن الفلم الوثائقي: مقاربات جدلية، تأليف مجموعة من الباحثين، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت 2011، ص 4128.
5«تستخدم الأنثروبولوجيا المرئية كلّ أدوات ووسائل المعلومات المعاصرة [كذا] وفن السينما التي تنطوي على جوانب إنسانية. لتكون واحدة من أكثر الوسائل فعالية لمنع الصراعات العرقية والدينية. وتهدف إلى الحفاظ على عديد الصور من الثقافات السائدة أو التي في سبيل إلى التلاشي، بحيث تبيّن خصوصيتها أو جوهر عالميتها، وجوانب الحوار أو الصراع بينها» رحاب مختار وساسي سفيان، الأنثروبولوجيا المرئية: الفيلم الإثنوغرافي والإنتاج الإعلامي الثقافي نموذجًا، حوليات جامعة قالمة للعلوم الاجتماعية والإنسانية، العدد 23، الجزء الأول، أفريل 2018، ص 487.
6Pierre Bonte et - Michel Izard : Dictionnaire de l'ethnologie et de l'anthropologie, Quadrige\PUF, 4ème édition,2010.p293-294
7رغم جهود الفن والعلم معًا، كثيرًا ما نتبيّن أنّ هذه المراجعات لم تجر بالعمق المطلوب الذي يجنّب الإنسانية الحروب أو استباحة حرية الشعوب وأراضيها أو مواردها الاقتصادية، لذلك نميل إلى التنسيب في عرض أفكارنا.