يُعتبر المشهد السينمائي في الهند أكثر تعقيدًا من سواه، ففيه يُنتج أكبر عدد من الأفلام في العالم، لثاني أكبر تعداد سكاني بعد الصين، وفي واحدة من أقدم حضارات الأرض وأكثرها ثراءً. وهذا المشهد متمدّد في الزّمن، يبلغ من العمر نحو ثمانين سنة تقريبًا، متغير من إقليم إلى آخر. وكل عملية تحديد ستمثل إظهارًا لسمات منه وإقصاءً لأخرى وستكون تعسفًا على هوية هذه السينما على نحوٍ ما. لذلك سنحاول أن نقتصر على رصد الثّابت القار منها والمميّز لها عن غيرها من السينمات الأخرى، وسنستأنس بمنجز مختصّين في دراستها من مستويات مختلفة.
1- السّينما الهندية: هل يمكن اختزالها في بوليوود؟
أضحت الصّناعة السّينمائية الهندية اليوم ضخمة، فهي لا تفتأ تكتسح الأسواق الجديدة، ولكن تقارير المختصين تذهب إلى أبعد من ذلك، فتؤكد أنها باتت تتفوق على السّينما الأمريكية نفسها في مستويات كثيرة، فهي تنتج اليوم، فضلاً عن الأفلام الوثائقية، نحو ألف فيلم روائي طويل سنويًا وتبيع نحو ثمانمئة مليون بطاقة لأفلامها. أما على المستوى المالي، فزيادةً على خَلقها للنجوم الكثّر، تمثل مصدر الدخل الرئيس لنحو عشرة ملايين مواطن، في الهند فحسب. ولكنها تبقى طبعًا دون سينما هوليوود من جهة الموارد والتأثير في تشكيل الرأي العام، وذلك لاقتصارها على أنماط معينة من الأفلام تقريبًا واستهدافها شرائح بعينها وافتقادها لأذرع إعلامية واقتصادية تدعمها، أو سياسية تجعل منها أداة للغزو الثقافي ولتشكيل العقول وتصورات سكنى العالم وفق رؤية محدّدة سلفًا، كما الشأن بالنسبة إلى السينما الأمريكية.
يُشار إلى صناعة السّينما النمطية الهندية بعبارة سينما بوليوود كما هو معلوم، والكلمة نحتٌ من كلمتَي بومباي (الاسم السابق لمدينة مومباي عاصمة الترفيه في الهند) وهوليوود (مركز صناعة الأفلام الأمريكية) وفيه تعبير عن تعلق صناعة السينما هناك بنمط الإنتاج السينمائي الأمريكي. ولكن هذه التسمية غير دقيقة، فلهذه السينما روافد كثيرة وضِلعان كبيران آخران هما:
° سينما «توليوود» ويشار بها إلى مركزين من هذه الصناعة هما حيدر أباد، خامس أكبر مدينة في الهند، وعاصمة ولاية أندرا براديش التي تتعايش فيها ثقافات وتقاليد متعددة وتتكلّم اللغة التيلوغية، وتوليجونجي وهو حي يقع في جنوب كلكتا في ولاية البنغال الغربية الناطقة باللغة البنغالية.
° سينما «كوليوود» Kollywood نسبة إلى مقرها في منطقة كوداماباكام بمدينة تشيناي، وتشير إلى صناعة السينما بلغة التاميل، كما يُستخدم مصطلح «كوليوود الجنوب» للإشارة إلى أفلام التاميل المنتَجة في سريلانكا وسنغافورة(1).
تبقى السينما الهندية موطنًا لمفارقة كبرى، فهي الأكثر إنتاجًا في العالم، أما حضورها في المهرجانات الكبرى أو في دراسات النّقد فدون حجمها بكثير، وهذا يعني أنها لا تحظى عند النقّاد بالتّقدير نفسه الذي تجده عند المتفرّج، فقد سرت قناعة ترى أنها تقتبس بحُرية أجناسًا وأساليبَ من تجارب السينما العالَمية الذائعة، فتؤسس لسينما هجينة بامتياز.
2 - سينما الاستعراض والتشويق والرومانسية
للسينما البوليوودية عناصر جامعة تخترق أغلب أفلامها، فتقارب بينها وتمنحها هوية خاصة، أهمها صدورها عن قصص شيقة تأخذ المتفرّج إلى عوالم الخيال وتدفعه إلى الحلم بحياة أخرى، مثالية غالبًا، مع أبطال نموذجيين. ويكون العشق الجارف المتمرّد على الأعراف البالية مدارها، فيعشق شاب فقير فتاة من الطبقة الراقية (أو العكس) ويمثّل التباين الاجتماعي الحاجز الأساسي الذي يحُول دون تتويج هذا العشق بزواج مستقرّ. وكما السينما الاستهلاكية عمومًا يكون الحبيبان على نصيب وافر من الجمال واللّطف، ويتمتّع الفتى بقدرات جسدية خارقة تخوّل له أن يتجاوز أعتى المصاعب، وتكون النهاية مؤثرةً، سعيدةً غالبًا، حزينةً محبطةً أحيانًا، ولكنها تظلّ كذلك مفروضة على مساق القص فرضًا، متماشية مع النزعة الميلودرامية التي تحفّز مشاعر المتفرّج للتعاطف مع البطلين، وتتطوّر القصة غالبًا دون أن تطرح قضايا المجتمع الشائكة لحرصها على أن تكون الفرجة متعة محضًا.
ومن مصادر الإمتاع في هذه الأفلام الاستعراض، فالسينما البوليوودية سينما استعراضية بالأساس عمادها الغناء والرّقص، وأشهر ممثليها من المغنين الرّاقصين، فتكون أغانيها جميلة معبّرة عن عواطف الحبيبين الملتهبة، يصحبها إيقاع سريع ينسجم مع الاستعراضات الشيقة ومهرجان الألوان الذي تعكسه الملابس. ومن هنا مأتى انجذاب عشّاقها إليها، «فإن كان يتعيّن عليك أن تذكر لي خمسة مكونات أساسية يجب أن يشتمل عليها فيلمك البوليوودي -بحسب المخرج كاران جوهر (Karan Johar)- فسأقول: السّحر والعاطفة، وفاصل زمني معتبر والذروة المتعسّرة، وجميع أنواع الترفيه التي يمكنك أن تضعها في الفيلم»(2).
3- سينما الماسلا المتجذّرة في الثّقافة الهندية
كثيرًا ما توجَّه أصابع الاتهام إلى هذه السينما، فتشير إلى كونها سطحية وأنها تجافي الواقع، فتقدم لغايات تجارية، مادة مبتذلة تُجارِي الأذواق البسيطة وحاجة المطحونين اجتماعيًا إلى التسلية، فتزيد من استلابهم بدلاً من أن تكون عنصرًا لخلق الوعي لديهم، فـ«مشاهدة فيلم هندي (جيدًا كان أو مقبولاً بكل بساطة) هي تجربة قوية تتعلّق [بعملية] تطهير صرف. ولئن كانت سينما العروض الضخمة في هوليوود تعوّل أساسًا على المؤثرات الخاصة التي لا يمكن حصرها، فهي سيل من العواطف قبل كل شيء، في بوليوود. ومن الواضح، مع امتداد الأفلام لمعدل بين ثلاث ساعات وثلاث ساعات ونصف (رغم النزعة إلى تقليصها مؤخرًا)، أن هذه السّينما تشتغل على المدة، فمشاهدة مقطع دعائي فحسب، يرهقنا لمزيج الأجناس والمواقف والعواطف التي تنتظرنا. وليس من الصدفة أن يطلق على الأفلام هناك "ماسالا" (أي المجموعة المتنوعة من التوابل)»(3).
ولكن المؤرخ السينمائي ويليام في كوستانزو يبدي شيئًا من التّفهم لهذا الاتجاه، فيفسر تسرّب الميلودراما إليها بافتقار الثقافة الهندية للتقاليد الجمالية للواقعية مثل الرواية الأوروبية، ويجد في هذا الانتقاد تطبيقًا لمعايير جمالية خاطئة، فـ«من المنطقي تطبيق معايير الميلودراما بدلًا من معايير الواقعية على السينما الجماهيرية للهند. هذا يعني أن تقييم القصص التي تُقدمها [يكون] طبقًا للقوة العاطفية والأهمية الرمزية والطابع العالَمي والنهايات السعيدة بدلًا من محاكاة الواقع أو الدقة التاريخية أو تعقيد الشخصيات»(4).
4- من التراجيديا إلى نظرية «الراسا» ومفهوم «دارشان»
حتى نفهم وجهة نظر ويليام في كوستانزو لا بد أن نعود إلى الخلفيات الجمالية الأرسطية التي قام عليها الفيلم النمطي (الأمريكي أساسًا)، فقد مثلت وحدة البناء سمة أساسيّة من سمات بنائه التراجيدي، وفرّعها إلى وحدة الموضوع وشكل الفعل القائم على التّعالق والتّرابط(5)، فيؤكد ميشال شيون أنّ مختلَف الخائضين في الفنّ الدّرامي قد توارثوا بنيته عن أرسطو إلى يومنا هذا: «لقد فرضت ضوابط الوحدة (وحدة الموضوع وشكل الفعل والنّبرة إلخ...) من قَبل أرسطو ومن بعده من قِبل أغلب منظري الفن الدرامي. يُشَكلِنها أرسطو على النّحو التّالي: "فالقصة كمحاكاة [كذا] لفعل يجب أن تعرض فعلاً واحدًا، تامًا في كليته، وأن تكون أجزاؤه العديدة مترابطة ترابطًا وثيقًا حتىّ أنه لو وُضع جزء في غير مكانه أو حُذف فإن "الكلّ التّام" يصاب بالتّفكك والاضطراب، وذلك لأن الشّيء الذي لا يُحدث وجوده أو عدمه أثرًا أو فرقًا ملموسًا لا يُعتبر جزءًا عضويًا في "الفعل التّام"»(6). أما الخلفيات الجمالية للفيلم البوليوودي فتُستمد، عنده، من نظرية «الراسا»(7) ومفهوم «دارشان»، فتمثل الراسا تجربة حسِّية إلى حدٍّ كبير تصل الحكم الجمالي الهندي في جميع الفنون بالعواطف والحواس، وأعظمها الحبّ، أما دارشان، فهو مصطلح على صلة بطقوس التعبّد في الهندوسية تجعل العشق المتبادل بين الهندوسي وصورة الإله، أو بين مرء وآخر، يصدر عن الصورة ليصلَ إلى الناظر، وهذا القانون هو الذي يحكم علاقات العشق في السينما الهندية(8). إذن، فالانخراط في هذه الميلودراما يظل بناء للهوية يحمل بُعدين، «فالسينما تعكس مواقف غير واقعية كثيرًا، ولكنها مع ذلك معقولة والمتفرّج يرغب في أن يكون قادرًا على التعرف عليها (نماذج) وتقدم في الوقت نفسه أدوارًا هووية تتضمن علاقات نموذجية (رجل- امرأة؛ هندوسي- آخر؛ والد - ابن؛ وما إلى ذلك) قد يرغب المشاهد في إعادة إنتاجها ... فلهذه الأفلام وظيفة مزدوجة تتمثل في تزويد الهندوس بهويتهم الفريدة، وإضفاء الشرعية على عواطفهم وقيمهم وأفعالهم»(9). فـ«القصة المتينة التي تنتهي إلى مغزى أخلاقي ضرورية في فيلم بوليوود، بحسب براتيك جوشي، فإلى حدّ كبير استطاعت السينما الهندية أن تستمر بفضل دعم جماهير ريفية وشبه حضرية تفضّل فيما يبدو سيناريوهات صدام الخير بالشر البسيطة، التي تكون غالبًا مستمدة من الملحمة القديمة للنفوذ الهندي، رامايانا، فتمجيد الأسرة، والتضحية الفردية من أجل الآخرين، وتوقير الكبير والسُلَط وعدم فاعلية الجريمة على المدى الطويل، هي موضوعات موجودة في الأشكال الثقافية الهندية عبر التاريخ. فليس من المستغرب إذن أن نجدها توجّه أسس الحبكات في السينما الحديثة»(10).
إذن، فأصل السينما الاستهلاكية في الهند الراسا ودارشان، وأصلها في أمريكا التراجيديا. ورغم النهل من مَعينَين مختلفين ومن سياقين اجتماعيين وحضاريين ودينيين متباعدين، فإنّ المستثمر يجد دائمًا السبل المناسبة لانتزاع ثمن التذكرة من جيب المتفرّج المتعطش للحكايات الخارقة. ومع ذلك، يحتاج الرأي الذي يرى في السينما الهندية كيانًا واحدًا إلى إعادة تفكير. ولا يخلو هذا من الشّطط، فليس كل ما ينتَج منها هو تقليب على أصل واحد مفتقد للأصالة ولا يثير إلاّ الأذواق البسيطة، فالأدق هو أن نتحدث عن سينمات هندية لا عن السينما الهندية الواحدة المعرّفة بالألف واللام(11).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش
.1 على المنوال نفسه سرت هذه التسمية على أقاليم عديدة مثل أوليوود (Ollywood) وهي صناعة السينما بلغة الأوريا وموليوود (Mollywood) صناعة السينما باللغة المالايالامية في الهند وبونج وود (Punjwood) صناعة السينما باللغة البنجابية في الهند وصندل وود (Sandalwood) صناعة السينما بلغة الكانادا، في ولاية كارناتاكا، الهند، وسوليوود (Sollywood) وهي صناعة السينما باللغة السندية في الهند. وتشير هذه التسميات إلى اللغات المعتمدة وإلى أقاليمها أكثر، أما الاختلاف النوعي من جهة المقاربات الجمالية فيبدو أنه لم يحظ بالدراسة الكافية.
2. Kabir, Nasreen Mummi 2001. Bollywood; The Indian Cinema History, London: Channel 4 Books; P 22.
3. Julien Fonfrède: Bollywood le cinéma retrouvé, 24 images, Numéro 119, octobre–novembre 2004, P24..
ويليام في كوستانزو: السينما العالمية من منظور الأنواع السينمائية، ترجمة زياد إبراهيم، الناشر مؤسسة هنداوي، 2019 يورك هاوس شبيت ستريت وندسور المملكة المتحدة، ص 4. 271.
5. ومن ثمّ يشرح رشاد شادي مفهوم الحدث الدّرامي عند أرسطو بكونه «ليس فقط كائنًا عضويًا تترابط أجزاؤه بالضّرورة والحتميّة، ولا ينفرد جزء منها بوظيفة عن الأجزاء الأخرى... إنه حدث له بداية ووسط ونهاية»، رشاد رشدي: نظريّة الدراما، من أرسطو إلى الآن، هلا للنشر والتّوزيع، ط1، القاهرة 2000، ص 23.
6. Michel Chion : Ecrire un scénario , Paris 2007, P 125 وقد أوردنا مقولة أرسطو من أثره «فن الشّعر»، ترجمة إبراهيم حمادة، مركز الشّارقة للإبداع الفكري، دت، ص 134.
7. «يرجع أصل هذا المصطلح إلى كتابات المسرحي والموسيقي الهندي باهارات منذ ألفَي عام؛ ففي الوقت الذي كان يقوم فيه أرسطو بصياغة أفكارِه حول التطهير العاطفي في الدراما الإغريقية، كان باهارات يستكشِف دور العاطفة في المسرح الهندي. وصَفَ باهارات في كتاباته الراسا كظاهرة عقلية أو مُتعة المشاهد في مُشاهَدَة تجسيد العواطف على خشبة المسرح. يرتبط مصطلح الراسا في النصوص الهندوسية الأولى بعصير كرمة الإله سوما، مما يُوحي بالانسياب، أو شيء يحرك العقل» ويليام في كوستانزو: السينما العالمية من منظور الأنواع السينمائية، ص 271.
8. إنه يحدث، في الأفلام الهندية، في أوقات قياسية محدَّدة، وغالبًا خلال أغنية أو وقفة درامية للزخم السردي يبدو فيها نجم أو تمثال لإله ما ونحن ننظر إليه كما لو كان ينظر إلينا. هذه اللحظة من المُتعة التوافُقية تختلف كثيرًا عن النظرة المُختلَسة في الأفلام الغربية، حيث يتوحَّد المُشاهد مع شخصية، عادةً ما يكون ذَكَرًا، يسترق النظر إلى شخص ما، عادةً ما تكون أنثى، لا تدري أن هناك من يُشاهدها. متعة الدارشان ليست المتعة المصحوبة بالذنب التي يشعر بها مختلس النظر، بل فرحة المتعبِّد بالمباركة من خلال رسالة مُتبادَلة من خلال الأعين. م. ن. ص 271.
9. Marie-Eve Lefebvre : Les influences de l’Hindouisme dans le cinéma populaire nord de1995 À 2005, Université du Québec à Montréal,Mai 2009, P 128 (manuscrit).
10. Joshi Pratik: The Classies and Blockbusters, In Bollywood ; Popular Indian Cinema, dir Joshi Lalit Mohan, London, Dakini Books, P 98.
لمزيد من التوسع انظر: ويليام في كوستانزو: السينما العالمية من منظور الأنواع السينمائية، ترجمة زياد إبراهيم، الناشر مؤسسة هنداوي، 2019 يورك هاوس شبيت ستريت وندسور المملكة المتحدة، ص 11. 273.