مأخوذٌ من العدد الأوَّل من مجلَّة "Mise au Point" المنشور عام 2009
يعتبرُ الاقتباس، كعمليَّة تضمينٍ أو تطعيم، اجراءًا مشروعًا في الأدب، غير أنَّ السينما تستخدمه أيضًا بشكلٍ كبيرٍ وفقًا لأساليب متنوِّعة، بشكلٍ أكثر أو أقلَّ وضوحًا. هذا الاجراء الذي يندرج، وفقًا لجيرار جينيت[1]، ضمن مفهوم التناص ويشكِّل، وفقًا للوران جيني، "حالةً محدودةً[2]" من التناص، يسمحُ بإقامةِ علاقةٍ بين نصٍّ مصدر (texte source) ونصٍّ مستقبل (texte réceptacle) أو إطار، بين نصٍّ أساس (hypotexte) ونصٍّ فائق (hypertexte). كان الاقتباس في الأدب موضوعًا لدراساتٍ عديدة، من بينها تلك التي قدَّمها جيرار جينيت، جوليا كريستيفا وأنطوان كومبانيون[3]، والتي يمكنُ أن تساعد في تحديد مفهوم الاقتباس عند تطبيقه على السينما. إنَّ دراسة طرائق وتحدِّيات الاقتباس السينمائيِّ تتيحُ مقاربة عدد من الأسئلة المتعلِّقة بوظيفة السرد في الفيلم، بأنماط التفاعل بين الفيلم المقتبَس والفيلم المقتبِس، والعلاقات التي يمكنُ أن تتنوَّع في طبيعتها، وتتَّخذ شكل تعليق، أو إشادة، أو محاكاة ساخرة. يوفِّرُ استخدام الاقتباسِ دلالات قيِّمة حول الخيارات الجماليَّة (و/أو الأيديولوجيَّة) للمخرج. كما أنَّ الاقتباس يثيرُ مسألة التلقِّي ويُشرِك المشاهد في عمليَّة التعرُّفعلى المصدر، ممَّا يستدعي ذاكرته ومعرفته. بالاعتماد على أعمال وودي آلن وتيم برتون، ومن خلال أمثلةٍ مختارةٍ لمخرجين آخرين {وايلدر، هيتشكوك، مينلِّي، بولانسكي، سكورسيزي، دي بالما}، أهدف إلى دراسة بعض الممارسات الاقتباسيَّة لتحديدِ مكانةِ هذا الأسلوب في موضوعِ الفيلم وما يكشفه عن موقف المخرجين في علاقتهم مع التراث السينمائي، وأوسع من ذلك، مع الإرث الثقافي.
يمكنُ للاقتباس أن يستدعي أشكالًا متعدِّدةً من الفنون. يستشهدُ الفنُّ السابعُ بالأدب بشكلٍ واسعٍ وتحت أشكالٍ متعدِّدة، ولكنَّه أيضًا يستحضرُ الرسمَ والموسيقى. على سبيل المثال، يستشهدُ ألبرت لوين (ضمنيًّا)، في فيلم «صورة دوريان غراي» (The Picture of Dorian Gray)، بلوحة «الوصيفات» (Las Meninas) لـ دييغو بيلاسكيث وبالرسم الهولندي، وفي فيلم «باندورا» (Pandora and the Flying Dutchman) يستشهدُ بـ بارتولوميه إستيبان موريُّو، بـ جورجو دي كيريكو وبرسَّامين سرياليِّين آخرين. في حين يستشهدُ مينِلِّي بالرسَّامين الانطباعيِّين (رنوار، مانيه، ديغا)، وأيضًا بـ هنري دو تولوز لوترِك، هنري روسُّو وراوول دوفي في فيلمه «أمريكيٌّ في باريس» (Un Américain à Paris). أمَّا في فيلم «يولاندا واللص» (Yolanda and the Thief) للمخرج نفسه فيُستحضرُ الفنَّان إيف تانغي من خلال الديكورات في المشاهد الحالمة. يشيرُ هيتشكوك باستمرارٍ إلى الرسم[4]، تمامًا مثل سكورسيزي أو لينش أو جان رنوار الذي تشبَّعت أعماله بأعمال والده أوغست رنوار الفنيَّة. أمَّا غودار، وفي فيلمه «بييرو المجنون» (Pierrot le Fou)، فيستشهدُ[5] بأعمال بيلاسكيث، رنوار، بيكاسو وماتيس وغيرهم. في حين يستحضرُ تاركوفسكي رسَّام الأيقونات الروسي الأسطوري أندريه روبلوف في الفيلم الذي كرَّسه له. والعديدُ من المخرجين يستشهدون باقتباساتٍ موسيقيَّةٍ ويشيرون أيضًا إلى النحت أو القصص المصوَّرة (مثل ألان رينيه في فيلم «أودُّ العودة إلى البيت» (I Want to Go Home) أو ألان جِسوا في فيلم «لعبة القتل» (Jeu de Massacre) وغير ذلك).
لئن قمنا بحصر النقاش في الاقتباس السينمائيِّ بحدِّ ذاته (اقتباسٌ من فيلمٍ معيَّنٍ في فيلمٍ آخر) فإن مجال التحقيق يظل واسعًا ومعقدًا للغاية. هذه المسألة تثير أولًا وقبل كلِّ شيءٍ مشاكلَ تتعلق بالتعريف. ما الذي ينبغي فهمه من مصطلح "الإقتباس السينمائي"؟ هل ينبغي اقتصار الأمر على الاقتباس الصريح (الاقتباس الموضوع بين مزدوجين) أو ما يعادله في السينما، أي إدراج جزءٍ من فيلم معيَّن (سواء كان فيلمًا خياليًّا، وثائقيًّا، أو رسوم متحركة) ضمن السرد المتواصل؟ أم ينبغي بدلًا من ذلك توسيع النظاق ليشمل الاقتباس الضمني أو المخفي الذي يمكن بدوره أن يتَّخذ أشكالًا متنوِّعة؟ ومن خلال أيِّ علاماتٍ مميَّزةٍ يمكن إذًا الحديث عن الاقتباسِ وتأثيره الاقتباسي، وهما جانبان يجبُ التمييز بينهما؟ ما نوع التأثير المقصود؟ ما هو دورُ المشاهد؟ وما هي المواقف التي عليه تبنِّيها (أو يُحثّ على تبنيها)؟
توفِّرُ السينما التي يقدِّمها وودي آلن أرضيَّةً جيِّدةً للتحليل، وتقدّم أعماله مثالًا مميزًا على استخدام الاقتباس السينمائي. يغذِّي آلن أفلامه من التراث السينمائي وينخرطُ في عملٍ اقتباسيٍّ يشملُ السينما الأوروبيَّة (خاصَّةً سينما الستينيَّات والسبعينيَّات)، وكذلك السينما الهوليووديَّة الكلاسيكيَّة المرتبطة ببعض الأنواع المميَّزة على غرار أفلام الجريمة (Film policier) {مثل أفلام العصابات (Film de gangsters) أو أفلام النوار (Film noir)}، وكذلك الكوميديا الجنونيَّة (Screwball Comedy) وكوميديا تجديد الزواج (Comédie de Remariage) والكوميديا الموسيقيَّة (Comédie Musicale)، أو حتَّى السينما التهريجيَّة (Cinéma burlesque). وفي فيلم «سليبي هولو» (Sleepy Hollow) يقوم تيم برتون أيضًا بعملٍ إقتباسيٍّ معقَّد. وتوحي الإشارات العرضية إلى مخرجين آخرين بأن المقصود هنا هو تقديم بعض الاتجاهات فقط حول مجال بحث واسع جدًا.
إنَّ العلاقة مع السينما الكلاسيكيَّة كانت حاضرةً في بداية مسيرة وودي آلن. وبالتالي فإنَّ فيلم «خذ المال واهرب» (Take the Money and Run)، وهو أوَّل فيلمٍ له كمخرج، يعجُّ بالإشارات إلى أفلامٍ محدَّدة (على غرار «حكاية الحيِّ الغربي» (West Side Story)، «أنا طريد العدالة ومن سلسلة عصابات» (I Am a Fugitive from a Chain Gang)، «المحتال» (The Hustler) وغيرها...)، تمامًا مثل «باناناز» (Bananas)، «نائم» (Sleeper) أو «كل شيء أردت معرفته عن الجنس» (Everything You Always Wanted to Know About Sex). يعتمدُ فيلم «العبها مرَّةً أخرى يا سام» (Play It Again, Sam)[6] على النموذج السرديِّ لفيلم «كازابلانكا» (Casablanca) لـ مايكل كورتيز، حيث يقدم نسخةً ساخرةً طبق الأصل عنه في مشهد الختام. بدءًا من فيلم «آني هال» (Annie Hall)، تصبحُ الإشارات أكثر خفوتًا، لكنَّها تستمرُّ على شكلِ آثار، أو تلميحات، أو إشاراتٍ أيقونيَّةٍ أو لفظيَّة، وذلك على الرغم من أنَّ الاقتباسات السائدة أصبحت من السينما الأوروبيَّة. في هذا الصددِ يكرِّمُ آلن شخصيَّتين مرجعيَّتين: فيديريكو فلِّيني و إنغمار بيرغمان. الأوَّل يُحتفى به من بين آخرين في فيلم «ذكريات الغبار النجمي» (Stardust Memories) حيث يُعاد كتابة المشهد الافتتاحي لفيلم «8½» (Huit et demi). أمَّا الثاني فيُستشهدُ به باستمرار، يقلَّدُ ويُحاكى في سينما آلن، خاصَّةً في ثلاثيَّته البرغمانيَّة {«دواخل» (Interiors)، «سبتمبر» (September) و «امرأةٌ أخرى» (Another Woman)} وكذلك في فيلم «الحبُّ والموت» (Love and Death) {من فيلم «الختم السابع» (The Seventh Seal)} وأيضًا في فيلم «ذكريات الغبار النجمي» (Stardust Memories) {وفيه أصداءٌ من فيلمي «الصمت» (The Silence) و «برسونا» (Persona)} وأيضًا في فيلم «تفكيك هاري» (Deconstructing Harry) الذي يُعادُ فيه سرد حكاية فيلم «الفراولة البريَّة» (Fraises sauvages). كما ويستشهدُ آلن بالسينما الألمانيَّة التعبيريَّة (Cinéma Germanique Expressionniste) لـ فريدريش مورناو و فريتز لانغ في فيلم «الظلال والضباب» (Shadows and Fog) حيث يعيد جزئيًا سرد حبكة فيلم «إم - مدينة تبحث عن قاتل» (M - Eine Stadt sucht einen Mörde).
غير أنَّ سينما هوليوود تظلُّ حاضرةً بقوَّةٍ في أعمال آلن المتوسِّطة على غرار «وردة القاهرة الأرجوانيَّة» (The Purple Rose of Cairo) ولاحقًا «الجرائم والجُنَح» (Crimes and Misdemeanours)، و «لغز جريمة قتلٍ في مانهاتن» (Manhattan Murder Mystery) أو «رصاصٌ فوق برودواي» (Bullets over Broadway). هذه السينما تعودُ بقوَّةٍ في الأفلام الأخيرة التي تتَّجهُ بشكلٍ رئيسيٍّ نحو الكوميديا {باستثناء فيلمي «نقطة المباراة» (Match Point) و «حلم كاساندرا» (Cassandra's Dream)} في حين أن الإشارات إلى النموذج الأوروبي تميل إلى التلاشي. كما وتُلاحَظُ عودةٌ إلى استراتيجيَّة تقليد الأجناس السينمائيَّة مثلم "سينما أفلام النوار" في فيلم «لعنة العقرب اليشم» (The Curse of the Jade Scorpion) وكوميديا تجديد الزواج بشكلٍ خاصٍّ في فيلمي «المحتالون الصغار» (Small Time Crooks) و «نهاية هوليوود» (Hollywood Ending).
أرغب في استكشاف بعضٍ من هذه الأساليب مع الاقتصار على التناص الهوليوودي. يتعلق الأمر أساسًا بدراسةِ ما يتَّصل بالإشارة البصريَّة أو اللفظية (التلميحيَّة أو المباشرة)، والاقتباس الذي قد يكون صريحًا أو ضمنيًّا، والمحاكاة الساخرة أو التقليد الأسلوبي (التقليد الهزلي) لبعض مشاهد الأفلام أو الأنواع السينمائية، وكذلك تحيَّة لبعض الشخصيات المؤثِّرة (خصوصًا ويلز وهيتشكوك).
الإشارة أو التلميح
وتتمثَّل في عمليَّة وساطة إمَّا من خلال حضورِ شخصيَّةٍ ما أو كلامها، وإمَّا من خلال كائنٍ يشير بطريقةٍ مجازيَّةٍ أو مجازٍ مُرسلٍ إلى مصدرٍ سينمائي. والأمرُ لا يتعلَّقُ باقتباسٍ فعلي، بل إعدادٍ محتملٍ لأجل الاقتباس الذي يحلُّ في بعض الحالات محلَّ الاقتباس نفسه. ويمكنُ الإشارة أن تساهِمَ في إرساء واقعٍ أو سياق تاريخي أو ثقافي. وهكذا، وفي فيلم «آني هال»، تسمحُ الإشارة إلى فيلم «اللامتكيِّفون» (The Misfits) لـ جون هيوستن (1961) بتحديد الزمن السردي (temps diégétique) في قصَّةٍ تعتمدُ على الاسترجاعات، تمامًا مثل الإشارة إلى إلى اختيار الممثلين في «العراب» حول اثنين من المعجبين الملقبين بـ "تشيش" (Cheech) (وهو أيضًا اسم كاتب أفلام العصابات الذي لعب دوره تشاز بالمينتري في فيلم «رصاصٌ فوق برودواي»). كما تلعبُ اللافتة المضيئة التي تعلنُ عن فيلم Hallowen III في فيلم «برودواي داني روز» (Broadway Danny Rose) دورًا مماثلًا. هذه الإشارة يمكن أن تكون لفظيَّةً بحتة. تكثر الأمثلة على عناوين الأفلام، وأسماء الممثلين أو الممثلات الرموز، الذين يتم ذكرهم بالاسم (فيرونيكا لايك، لورين باكال في «مانهاتن»، و همفري بوغارت في «العبها مرَّةً أخرى يا سام». أحيانًا تكون الإشارة مجرَّد اكسسوار، كقناع الأخوة ماركس (Marx Brothers) الذي يرتديه والدا فيرجيل في فيلم «خذ المال واهرب». خلال الأمسية الباريسية التي تختتم فيلم «الكلُّ يقول أحبُّك» (Everyone Says I Love You)، يرتدي جميع الضيوف تفصيلًا من شخصية غروتشو: النظارات، السيجار، أو الشارب.
يمكن لهذا النوع من الإشارات أن يظهر أيضًا على شكلٍ أيقوني، وذلك من خلال عرض ملصقات سينمائية أو صور فوتوغرافية. في «العبها مرَّةً أخرى يا سام» وبشكلٍ منطقي، تكون هذه الإشارات أفلامًا مثل «عبر المحيط الهادئ» (Across the Pacific) و«الصقر المالطي» (The Maltese Falcon) اللذين يبرزُ فيها بوغارت، أيقونة البطل. وفي بهو سينما Jewel في «وردة القاهرة الأرجوانيَّة» تُعرضُ ملصقات فيلم مغامراتٍ من بطولة رونالد كولمان[7]، وتكون صور الممثِّلين والممثِّلات مألوفة. وكعنصرٍ من عناصر الديكور، تسهم هذه الأشياء في استراتيجية شاملة لتمثيل الوسيط السينمائي، الذي يصبح مرجعًا لا غنى عنه. تقوم اللافتات الضوئيَّة لدور العرض السينمائيَّة، والتي تبرزُ عناوين الأفلام، بوظيفةٍ معلوماتيَّة، ولكن إلى جانب ذلك، يمكن أن تصبح اللافتة جزءًا من الحبكة كما في «وردة القاهرة الأرجوانيَّة»، حيث تؤدي وظيفةً سرديَّةً ورمزيَّة. يتفكَّك جزءٌ من اللافتةِ ويسقطُ على رأس شخصية "سيسيليا"، مُقدماً لموضوع الفيلم الرئيسي، التبادل بين الوهم والواقع. يساهم هذا الدور الذي تشغله القطع الفنية في تصوُّرٍ متكرِّرٍ للأشياءِ على أنها كائناتٍ حيَّةٍ وربَّما مهدَّدة.
على عكس اللافتة التي تنتمي حصريًّا إلى المجال العام، يشاركُ الملصق في الحياة الحميميَّة لمُشاهِد السينما الذي غالبًا ما يكون شخصيَّةً "آلِنيَّة". إنَّها تساهمُ في إضفاء طابعٍ شخصيٍّ على بيئته المألوفة، وأيضًا في رسمِ ملامحَ الشخصية من خلال الإشارة إلى إعجاباته وهوسه وأوهامه. والمثير للدهشة أن سيسيليا، وهي من محبِّي السينما، ليس لديها أيَّ شيءٍ يستحضرُ السينما في بيتها. كما يُدخلُ الملصَقُ عنصر اضطرابٍ (perturbation) بحيث يجذبُ انتباه المُشاهد إلى تفصيلٍ معيَّنٍ في الصورة، وبالتالي يصرف انتباهه عن السرد متلاعبًا بشفافية القصة. إنَّها علامةٌ على سردٍ غير مباشرٍ ودقيقٍ يعملُ بطريقةٍ اقتباسيَّة، وذلك من خلال كنايةٍ ما. ناهيك عن أنَّ الملصق يسمحُ بخلقٍ تباينٍ بين جماليَّتين مختلفتين. وهنا تتباينُ أسلوبيَّة الملصق مع الوهم المرجعي (illusion référentielle) الناتج عن الخيال (fiction)، بحيث يتعارض ثباتُ الملصقِ مع حركة السرد في الخيال. يدخل الملصق خصائصه الأسلوبية الخاصة في إطار عالم آخر، إذ يساهم في جماليةٍ غير متجانسةٍ تبرز من خلال التلصيق (collage) والتجزئة (Fragmentation).
باستطاعة الإشارة الدقيقة، سواء كانت لفظيَّة أو بصريَّة، أن تمهِّد الطريق لإدراج الاقتباس أو تأكيد مصدره بعد وقوعه. هذه الإشارة يمكن أن تتجسَّد بشكلٍ لفظي. ففي فيلم «لغز جريمة قتلٍ في مانهاتن» تخرجُ الشخصيَّات من قاعة السينما ويعلِّقون على الفيلم الذي شاهدوه للتو. ويهيِّئ الحوارُ الاقتباسَ الواضحَ من فيلم «تعويضٌ مزدوج» (Double Indemnity) لـ بيلي وايلدر عام 1944. تشكِّل المشابهة في الموقف شكلًا آخرَ من أشكال الإشارة. في فيلم «آليس» (Alice) تحلّق الشخصية الأنثويَّة التي تؤديها ميا فارو فوق المدينة ليلًا بين ذراعيَ شبحِ زوجِها السابق. هذا الموقف يُحيل إلى عملين سينمائيين على الأقل، أولًا إلى فيلم الرسوم المتحركة «بيتر بان» (Peter Pan)، وثانيًا إلى فيلم «سوبرمان» (Superman). إنَّ الطابع الحُلمي للفيلم، والذي لُمِّحَ إليه بالفعل من خلال اسم الشخصيَّة، يتعزَّز من خلال هذا الاقتباسِ المُزدوَج. وفي مثالٍ آخر، فإنَّ الطريقة التي يرتبطُ فيها كلًّا من داني وتينا (ميا فارو)، حيث يكونان ملتصقَين ببعضِهما في فيلم «برودواي داني روز»، يحيلُ إلى فيلم «الدرجات التسع وثلاثين» (The 39 Steps) لـ هيتشكوك. في كلتا الحالتين، يجري استغلال اللعب على الايروتيكيَّة المحتملةِ في المشهد بشكلٍ شديد الوضوح، بل أيضًا بشكلٍ عابرٍ عند آلن، نظرًا لأنَّ الموقف مؤقَّت. بعض التشابهات في المواقف قد تكون تلميحيَّة. وهكذا فإنَّ مشاهدَ تصفيةِ الحسابات في فيلم «رصاصٌ فوق برودواي» لا تشير إلى فيلمٍ معيَّنٍ بعينه، بل تبقى مجرَّدةً وعابرة. ثمَّة مثالٌ أخيرٌ حديثٌ يقدِّم استعادةً تكاد تكونُ اقتباسيَّةً بالكامل، ألا وهو الظهور الأوَّل لـ تشارليز ثيرون في فيلم «لعنة العقرب اليشم». هذه اللقطة الصغيرة تذكِّرنا بالمشهد الافتتاحيِّ في فيلم «النوم الكبير» (The Big Sleep) من خلال حواراته والسخرية من شخصية المخبِر الخاص، إلَّا أنَّها تقدِّمُ أيضًا، من حيث التمثيل، اندماجًا مثيرًا بين أيقونتين من أيقونات أفلام النوار: لورين باكال (في دور فيفيان ستيرنوود) من حيث اللغة، و فيرونيكا لايك من حيث تصفيفة الشعر الشهيرة التي تخفي جزءًا من الوجه. كما أنَّ الإشارة إلى "شراهة ممارسة الاتِّصال الجنسي" (nymphomania) لدى الشخصيَّة تذكِّرُ أيضًا بـ "كارمن" (والتي أدَّت دورها مارثا فيكرز)، شقيقة فيفيان غير الناضجة والمنحرفة. وأيضًا يذكِّرنا ردُّ "بريغس" (الذي قام وودي آلن بدوره) بسخرية بوغارت، لكن النبرة مختلفة، حيث تركز على الصورة المتدهورة للمحقق الخاص، الذي لم يعد "رومانسيًا"، بل "وضيعًا". هذا الفيلم يستحضرُ "أفلام نوار" أخرى مثل «تعويضٌ مزدوج»، خصوصًا في المشهد الذي يعودُ فيه بريغس ليلًا إلى مبنى وكالة التأمينات "نورث كوست"، وعمومًا من خلال إقامة تشابهٍ بين بريغس، وكيل التأمينات الذي أصبحَ لصًّا، و "والتر نيف"، وكيل التأمينات الذي تحوَّل إلى مجرم.
من الممكن إجراء هذا النوعُ من الرصد (repérage) عند العديد من المخرجين الآخرين، مثل جان لوك غودار على سبيل المثال. هذا الأخيرُ تحتوي معظم أفلامه على إشارات إلى السينما، على غرار ملصقات الأفلام وصور همفري بوغارت[8] في فيلم «منقطع الأنفاس» (À bout de souffle). كما أنَّ الاقتباسات الصريحة شائعةٌ أيضًا، مثل اقتباس فيلم «شغف جان دارك» (La Passion de Jeanne d'Arc) لـ كارل تيودور دراير في فيلم «لتعيشَ حياتها» (Vivre sa vie).
الاقتباس الصريح
على عكس الإشارة، يشيرُ الاقتباسُ إلى الظهور الفعلي لجزءٍ من نصٍّ سينمائيٍّ آخر موجود، سواء من خلال تمثيل عناصر بصريَّة (éléments visuels) وصوتيَّةٍ (éléments sonores) أو من خلال عناصر صوتيَّة فقط (لفظيَّة (verbaux) و/أو موسيقيَّة (musicaux)). يعتبرُ الاقتباسُ أكثر مباشرةً من الإشارة لأنَّه يتجاوز الحاجة إلى وجودِ عنصرٍ بديل (objet substitutif). على وجه التحديد، وعلى عكس الإشارة التي لا تقطع استمراريَّة السرد، يغيِّرُ الاقتباسُ من هيكل القصَّة، حيث يتسبَّب في حدوث انقطاعٍ يدفعنا للخروج مؤقَّتًا من السياق السردي (Diégèse). في كلتا الحالتين، لا تكون علاقة المُشاهد بالسردِ هي نفسها. إذ تعملُ الإشارة على تحفيزِ مخيِّلة المشاهد، في حين أنَّ الإقتباسُ، وبفرضه لوجوده، يعطِّلُ نظام "التصديق" المتأصِّل في الخيالِ ويوقف، بشكلٍ مؤقَّتٍ على الأقل، عمليَّة التماهي الثانوي مع الشخصيَّة (بحسب كريستيان ميتز[9]). هنا أيضًا من المهم التمييز بين الضمني والصريح.
من الممكن رصدُ الاقتباس الضمني المنصهر في نسيج الفيلم والتعرُّف عليه، أو قد يمرُّ دون أن يلاحظه المشاهد (حسب خبرته)، ولا يقطع بالضرورة الخيط السردي، على عكس الاقتباس الصريح (أو الواضح)، والذي يتجلَّى عبر أشكال وأساليب متنوِّعة. قد يكون لفظيًّا بحتًا ومندمجًا في الحوار. في فيلم «مانهاتن»، تُعتَبرُ الجملة البوغارتيَّة المستعارة من فيلم «كازابلانكا» "سنظلُّ باريس فينا على الدوام" (We'll always have Paris)، والتي وجَّهها "آيزك" إلى "ترَيسي" عندما تتحدَّثُ عن رحيلها المرتقب إلى لندن، طريقةً لإيصال احتماليَّة الانفصال، وربَّما أيضًا، وفقًا لإلينا داغرادا[10]، وسيلةً لدى آلن بغية التخلُّص من شبح بوغارت. وفي فيلم «وردة القاهرة الأرجوانيَّة»، يخاطبُ "مونك" (والذي يؤدِّي دوره داني آييلو) سيسيليا قائلًا: "اسمعيني، أنا أضربُكِ عندما تتجاوزين حدودك، ولا أضربُكِ على الفور، بل أحذِّرك في البداية، ولئن لم تستقيمي بعدها فستُضربين". هذه العبارة تمثِّلُ نسخةً طبق الأصل من عبارةٍ في فيلم «وُلِدوا بالأمس» (Born Yesterday) لـ جورج كيوكور: "حسنًا، إنَّني أُكلِّمكِ بخشونةٍ في بعض الأحيان، وربَّما ضربتُكِ بضع مرَّات". إنَّها تعكسُ السلوكَ الذكوريَّ العنيف نفسه لدى العامل الكادح في نيوجرسي، ولدى "المليونير" الصاعد، الذي ربما يكون من أصول شعبية ويعمل في مجال النفايات المنزلية.
تكون الاقتباسات الصريحةُ مدفوعةً بالسياق السردي وغالبًا ما ترتبطُ بحالةِ المشاهدة. يُرغمُ الاقتباسُ الذي يقتصر على التعبيرِ الصوتيِّ المشاهدَ على سدِّ الفجوة من خلال انتاجِ صورٍ ذهنيَّةٍ قد تكون إمَّا استذكاراتٍ سينمائيَّة (réminiscences cinéphiliques) أو ابتداعًا خالصًا (pure invention). في فيلم «الجرائم والجُنَح» يرتبط اقتباس الموسيقى التصويرية لفيلم «لنغني تحت المطر» (Singin' in the Rain) -حيث لا تُعرض الصورة أبدًا- بالموقف السردي. إنَّها محاولةٌ من "كليف" (المخرج الوثائقي الفاشل والمثالي الذي أدَّى وودي آلن دوره) لإغواء هالي (التي أدَّت ميا هارو دورها)، إلَّا أنَّ المشهد يشيرُ أيضًا إلى متعة الشخصيَّات تجاه الصورة {المرئيَّة في عارضِ صور (viewer)} وتجاه لحظات الذروة في الأفلام الموسيقيَّة الكوميديَّة، وهي متعةٌ يتشاركها المُشاهدُ حتَّى وإن كان محرومًا من رؤية الصور. وفي "الجينيريك" الخاص بفيلم «وردة القاهرة الأرجوانيَّة»، يُسهم اقتباسُ أغنية «Cheek to Cheek» (من تأليف إرفينغ برلين)، وهي الأغنية الرمزيَّة لفيلم «القبَّعة العلويَّة» (Top Hat)، في تفعيل آليَّةٍ أكثر تعقيدًا. يُعلنُ الاقتباس الصوتي في بداية الفيلم عن الموضوع الأساسي للهروب التخيُّلي الوهمي من خلال السينما، كما يشيرُ أيضًا إلى إطار الخيال في ثلاثينيَّات القرن الماضي. في نهاية الفيلم، تضاف الصورة وتتردَّد الكلمات بشكلٍ مختلف، ممَّا يدعو إلى إعادة قراءة العمل بأكمله. وبالتالي نحنُ أمام استراتيجيَّةٍ ذات تأثيرٍ مزدوج. وهكذا فإنَّ إعادة توظيف عنصرٍ اقتباسيٍّ بشكلٍ مزدوجٍ تؤدِّي وظيفةً هيكليَّة، بحيث تؤطِّر الفيلم وتبرزُ طابعه الدائري.
توجد أمثلة على الاقتباسات الصريحة الكاملة (بصرية وصوتية)، بيد أنَّ عددَها محدودٌ نسبيًا. واحدٌ من هذه الاقتباسات المعروفة هو مشهدُ النهاية من فيلم «كازابلانكا» الذي يفتتحُ فيلم «العبها مرَّةً أخرى يا سام» والذي يبرزُ افتتان "آلن فليكس"، المتفرج الضائع في الصورة، باعتباره النظير الذكر للمتفرجة الأنثى في فيلم «وردة القاهرة الأرجوانيَّة». يشكل ذلك تمهيدًا لوضع سرديَّتين متوازيتين، حيث ستتطابق احداهما على الأخرى. تسعى شخصيَّة فليكس، الناقد السينمائي المهووس بالسينما، إلى الاستلهام من بطلها السينمائي للتودُّد، وهذا البطل يَظهرُ في الصورة بشكلٍ متكرِّرٍ حتَّى المواجهة النهائيَّة، حيث يختفي المُرشد لأنَّ التلميذ قد وجد أخيرًا أسلوبَه الشخصي. ما يزال الأسلوبُ بسيطًا إلى حدٍّ ما، لكنَّهُ يكشفُ عن الاهتمام المبكِّرِ للمخرج بهذا النوع من التفاعلات (interactions)، ورغبته في تسليط الضوء على العلاقة الخاصة التي تتشكَّل بين المُشاهد والصورة الفيلميَّة (image filmique). غالبًا ما يكون الاقتباسُ مرآةً مشوَّهةً للسردِ بدرجاتٍ متفاوتة. في فيلم «أيَّام الراديو» (Radio Days)، يعكسُ مشهدٌ مقتطفٌ من فيلم «قصَّة فيلادلفيا» (Philadelphia Story) الرحلة العاطفيَّة لـ "بيا"، والتي تنتهي بسلسلةٍ من الإخفاقات. وفي فيلم كيوكور، تبدو القبلة المتبادلة بين جَيمس ستيوارت و أودري هيبورن منذرةً بنهايةٍ سعيدة، غير أنَّ "ديكستر" (الذي لعِبَ كاري غرانت دوره) هو من يستعيد "ترَيسي" (هيبورن) وليس "مايك" (ستيوارت) المُستبعَد. القُبلةُ عبارةٌ عن شِرك، تمامًا مثل وعودِ حبيب بِيا. إلى جانب البُعد النوستالجي (والسيَري) الذي أبرزه التعليقُ الصوتيُّ لـ آلن، يعمل الاقتباس كتعليق ساخر على السرد. في فيلم «هانّا وأخواتها» (Hannah and her Sisters)، يُقتبسُ مشهدٌ من فيلم «حساءُ البط» (Duck Soup) (والذي صدر عام 1933 من إخراج ليو ماكّاري) الذي يشاهده "ميكي ساكس"، الشخصيَّة المصابة بالهُجاس، في السينما فيما ما يزال يعاني من الاكتئاب. يعملُ المشهدُ المفعمُ بالطاقة والفكاهة كعلاجٍ أو تنفيسٍ نفسيٍّ ويعيدُ لبطلِ الفيلم الرغبةَ في الحياة. يتناوب المشهدُ بين صورٍ لميكي ومشاهدُ من الفيلم، مبرزًا التأثير التدريجي للصور على حالته المزاجيَّة.
يشكِّلُ فيلم «الجرائم والجُنَح» حالةً نادرةً بين أفلام وودي آلن، حيث يحتوي على خمسة اقتباسات من أفلامٍ هوليووديَّة. يستدعي آلن الذاكرة السينمائية ويتلاعب بمختلف إمكانيات الاقتباس، بالإضافة إلى اللعب بمفهوم النوع السينمائي. يعكسُ الاقتباسُ الأوَّل، المأخوذ من فيلم «السيِّد والسيِّدة سميث» (Mr. and Mrs. Smith - 1941) لـ هيتشكوك، وهو كوميديا تجديد الزواج وكوميديا مجنونة، الموقف، أي الأزمة ما بين "جوداه" (وأدَّى دوره مارتن لاندو) و "دولوريس" (وأدَّت دورها أنجليكا هيوستن)، لكنه يعالج بأسلوب هزلي موقفًا دراميًا إلى حدٍّ كبير. أمَّا الاقتباس الثاني، المأخوذُ من فيلم «هذا السلاح للإيجار» (This Gun for Hire - 1942) لـ فرانك تاتل، فيظهرُ في لحظةٍ حاسمةٍ من الحبكة، وذلك أثناء الصفقة الإجراميَّة بين جوداه وأخيه رجل العصابات، ويعملُ كنوعٍ من التوضيح البصري لما لم يُذكَر أو ما تمَّ كتمه في المشهد السردي، أي رفضُ جوداه التفكير في تفاصيلِ القتل التي وُصِفَت بدقَّةٍ في المشهدِ المقتبس. فيما الاقتباسات الثلاثة الأخرى، اثنان منهما مرئيَّان (من فيلمي «سعيد الحظ» (Happy Go Lucky) لـ كورتيس برنار و «رجلُ العصابات الأخير» (The Last Gangster) لـ إدوارد لودفيغ)، والثالثُ مسموعٌ فقط (من فيلم «لنغني تحت المطر»)، فجميعها أيضًا هي تعليقٌ على موقفِ أو سلوكِ أحدى الشخصيَّات.
في مطلع فيلم «لغز جريمة قتلٍ في مانهاتن»، يُقتَبسُ مشهدٌ من «تعويضٌ مزدوج»، ممَّا يتيحُ رسم موازاةٍ بين وضعيَّة الزوجين البرجوازيَّين في السياق السرديِّ الرئيسي (السيِّد والسيِّدة هاوس) وبين وضعيَّة بطلَي فيلم نوار أيقوني. في كلا الحالتين، تشكِّلُ بوليصة التأمين محور الحبكة، تمامًا كما هو الحال مع الثالوث العاطفي (triangulation amoureuse)، ولكنَّ الأدوار معكوسةٌ هنا. في فيلم «تعويضٌ مزدوج»، تكون "فيليس ديتريشستون" (والتي أدَّت باربرا ستانويك دورها) هي المرأة الفاتنة التي لديها عشيقين، أمَّا في فيلم وودي آلن، فإنَّ "بول هاوس" (والذي قام جيري آدلر بتأدية دوره) هو الذي لديه عشيقتَين. مع ذلك، فإن هذا العرض الظاهر للاقتباس يخفي أيضًا تشابهاتٍ أعمق بكثيرٍ مع سيناريوهاتِ أفلامٍ أخرى. يظهرُ اقتباسٌ ثانٍ في نهاية الفيلم، أيضًا في لحظةٍ حاسمة، وذلك حين تُحتجزُ كارول، زوجة لاري، من قبل بول هاوس داخل دار سينما قيد التجديد، حيث يُعرضُ فيلم «السيِّدة من شَنغهاي» (The Lady from Shanghai) لـ أورسون ويلز. يعرضُ آلن في نفسِ الإطار المصدرَ السينمائيَّ الأصليَّ ومحاكاة إعادة تمثيله، ممَّا يشكِّل نهجًا أصليًّا وبدرجةٍ ما خروجًا عن المألوف. هذا الاستدعاء لفيلم ويلز الكلاسيكي يتيحُ إحياءَ مشهدٍ كان لولا ذلك ليقعَ في فخِ الابتذال والنمطيَّة. وبينما تتطوَّر صورة الفيلم الأصلي بالأبيض والأسود بشكلٍ مستمر، وتتغيَّر اللقطات بشكلٍ مستمرٍّ وتصبحُ أكثر تفكُّكًا، يبقى الفيلم الملون أكثر استقرارًا وتجانسًا، وينتهي بالسيطرة على المشهد. شيئًا فشيئًا يتلاشى فيلم ويلز ليغدو مجرَّد خلفيَّة بصريَّة، بحيث يُبتَلع من قِبَل الفيلمِ الملوَّنِ الذي يستعير منه الديكور، والتكوينات البصرية والحوار. بل ويُحرم المشاهد حتَّى من النهاية التي من المحتمل أن يكون على دراية بها. يختفي "مايكل أوهارا" (والذي يؤدِّي دوره أورسون ويلز نفسه) من الإطار تمامًا مثلما يفعل لاري الذي يحرر أخيرًا زوجته في "نهاية سعيدة" تقدِّم تباينًا كوميديًّا مع الخاتمة المأساوية لفيلم ويلز، وهو ما يُعتَبر تمهيدًا للنهاية الحقيقية للفيلم التي تأتي بعد قليل، وتُبرز تجديدَ العلاقة (المؤقتة؟) بين الزوجين اللذين كانا مهدَّدين بالانفصال في بداية السرد.
هنا يقدِّمُ وودي آلن مشروعًا يقوض فيه جذريًّا وإلى حدٍّ كبيرٍ الوظيفة الاقتباسيَّة. يبقى الفيلم المُشار إليه قابلًا للتعرُّف عليه، لكنَّه يندمجُ بشكلٍ مطلقٍ في السياق السرديِّ الرئيسي وبالتالي يفقد استقلاليَّته. في الوقت نفسهِ يعيدُ المخرج إحياء مشهدٍ تقليديٍّ لمطاردةٍ ويبعدُ الطابع المأساوي الذي قد ينشأ من المواجهة بين بول هاوس و "السيِّدة دالتون"، شريكته ومساعدته، وهي صورةٌ أخرى في المرآة (تمامًا مثل بول وليليان هاوس) لزوجين متقدِّمين في السنِّ وفي محنة. هذا المشهدُ الذي تمِّ إخراجه ببراعةٍ يلعبُ على عدَّة مستويات: أوَّلها تحيَّةٌ نوستالجيَّةٌ لشخصيَّةٍ بارزةٍ في تاريخ السينما {كما هو الحال في عمل آلن في فيلم «زليغ» (Zelig) التي يتفاعلُ بشكلٍ معقَّدٍ مع «المواطن كاين» (Citizen Kane)}، وثانيها محاكاةٌ ساخرةٌ واستهزاء، وأخيرًا تأمُّلٌ في قوَّة الوسيط السينمائي والآليات التي يثيرها في التعرف على الشخصيَّات، حتى عندما يستخدمُ موادَ غير متجانسة. من الممكن ملاحظة العملِ الدقيق للغاية على التأطيرات، والتجزئة، وتأثيرات المرآة، والتركيب شبه التجريديِّ لبعض المشاهدِ التي تحاكي بشكلٍ مميَّزٍ تلك الموجودة في الفيلم الأصلي. ومع ذلك يأخذ آلن هذا العمل المقلَّد إلى مستوى أبعد، لكن هذه المرَّة من دون تضمينِ أيِّ مقتطفٍ من الفيلم النموذجي. تحلُّ الصورة الزائفة محلَّ المصدر الأصليِّ الذي يكون في بعض الأحيان قد تعرَّض بالفعل لتشويهٍ كبير.
من الممكن إيجاد العديد من الأمثلة على الاقتباس الصريح لدى مخرجين آخرين، خاصَّةً مارتن سكورسيزي. وهكذا يحتوي فيلم «شوارعُ متوسِّطة» (Mean Streets) على ثلاثة اقتباساتٍ سينمائيَّة، جميعها مبرَّرةٌ بمواقف مشاهدةٍ داخل الفيلم. أوَّل هذه الاقتباسات يردُ في منتصف الفيلم تقريبًا ويتعلَّقُ بمشهدِ شجارٍ من فيلم «الباحثون» (The Searchers) لـ جون فورد. يضحك رجال العصابات بصوتٍ عالٍ أمام هذه المشاهد التي تذكِّرنا أيضًا بالعديد من مشاهدِ الشجار في فيلم سكورسيزي. أمَّا الاقتباس الثاني فيأتي في نهاية الفيلم ويبدو أنَّه غير متناسب. هذا الاقتباس في الواقع مأخوذٌ من فيلم «قبر ليجيا» (The Tomb of Ligeia) لـ روجر كورمان، وهو فيلم رعبٍ لا يرتبطُ بشكلٍ كبيرٍ بقصَّةِ أو أجواء «شوارعُ متوسِّطة». يمكن تفسير هذا الاقتباس أولًا من خلال سياقِ الإنتاج. ما أراده سكورسيزي هو شكرُ كورمان على مساعدته وتقديم تكريمٍ له. ومع ذلك فإنَّ اختيارَ المشهدِ ليس غير متناسبٍ بدرجةٍ كبيرة. في مشهدٍ سابقٍ لجأ الرفيقان إلى مقبرة، بل إنَّ جوني (والذي أدَّى روبرت دي نيرو دوره) استلقى فوق قبرٍ من القبور. هذا الدافع المروِّع يُنذر بالنهايةِ المأساويَّة لجوني، الذي سيصابُ بجروحٍ قاتلة. إنَّ المشهد الذي يحاولُ فيه "فيردن فِل" (الذي قام فينسنت برايس بتأدية دوره) خنق "ليجيا" (والتي أدَّت دورها إليزابيث شيبرد) العائدة من الموت يحاكي مشهدًا مماثلًا يتصارعُ فيه "تشارلي" (وأدَّى هارفي كيتل دوره) بعنفٍ مع جوني. فيما يردُ الاقتباس الثالث والأخير في نهاية الفيلم، مباشرةً بعد الحادث. وهو عبارةٌ عن بضع لقطاتٍ من فيلم «النزوة الكبيرة» (The Big Heat) لـ فريتز لانغ، وذلك حينما يحاول بانيون (الذي قام غلين فورد بتأدية دوره) اخراج جثَّة زوجته من السيَّارة التي انفجرت للتو. التشابه بين المشهدين واضح، إلَّا أنَّ سكورسيزي يتجاوز ذلك ليقدِّم إشارةً إلى تقاليد فيلم النوار (الأكثر حداثة)، في حين أنَّ فيلمه نفسه يستحضرُ أفلام العصابات التي أنتجتها شركة وارنر بروس في ثلاثينيَّات القرن الماضي، على غرار فيلم «عدو الشعب» (The Public Enemy - 1931) لـ وليَم وِلمان، والذي استَلهم منه مشاهدَ الحانات والشجارات، وكذلك استخدامِ الموسيقى في السياق السرديِّ للفيلم.
مثالٌ آخرُ على الاقتباس المتقن الذي استخدمه سكورسيزي، ألا وهو الاقتباسُ الصوتيُّ البحت، حيث استعان ببعض الألحان الموسيقيَّة من فيلم «الاحتقار» (Le Mépris) لـ جان لوك غودار في فيلمه «كازينو» (Casino). جرى تكرار دافعين[11]، موضوع "كامي" (والتي أدَّت بريجيت باردو دورها) وموضوع الآلهة في نهاية الفيلم. تظهر الاقتباسات الموسيقية خمسَ مرَّات، ولكن فقط في النصف الثاني من الفيلم. يحدث الظهور الأول لها في مشهدِ الصحراء عندما يلتقي "نيكي سانتورو" (وأدَّى دوره جو بيشي) مع "سام روثستاين" (وأدَّى دوره دي نيرو). إنَّها أوَّل مواجهةٍ عنيفةٍ بين الرجلين. بعد ذلك بوقتٍ قصيرٍ يخون نيكي سام ويصبحُ حاميًا لـ "جينجر" (التي قامت شارون ستون بدورها) التي يجعلها عشيقته. ثلاثة حوادث أخرى تحدثُ في وقتٍ قصير. يُسمعُ الموضوع أوَّلًا عندما تعودُ جينجر إلى الطائرة بعد هروبها. ترافقُ الموسيقى المحادثةَ في السيَّارة (أو بالأحرى استجواب جينجر من قِبَل سام). بعد ذلك بوقتٍ قصير، يُسمعُ الموضوع مرَّةً أخرى حينما تُفاجَأ جينجر بسام أثناء اتِّصالها بنيكي، وهو ما يُعدُّ تمهيدًا لمشهدٍ عنيف. أمَّا الحادثة الرابعة فتحدثُ عندما تُطردُ جينجر من المنزل، فتغادر فتغادر بالسيارة قبل أن تعودَ بعد فترةٍ دون أن تنطقَ بكلمة، مستلقيةً في سرير الزوجية. وفي الختام، يرافقُ موضوعُ كامي اللقطةَ الأخيرة المقرَّبَةَ على سام، الناجي من انفجار سيارته، والذي يواصل ممارسةَ مواهبه ويعلِّق على مصيره الشخصي. تستمرُّ الموسيقى خلال جينيريك النهاية، وتقدم أيضًا لأوَّل مرَّةٍ موضوع الآلهة الذي يفتحَ منظورًا آخر، مما يعكس هنا سخريةَ المخرج. يرتبط موضوع كامي بشكلٍ واضحٍ بتفكُّك الزوجين، حيث يحتقرُ الزوجُ زوجتَه وبالعكس، ولكنَّه يتعلق أيضًا بنهايةِ الصداقة بين سام ونيكي، خصوصًا بسبب جينجر. كما أنَّ التحية الموجَّعة لـ غودار تعكس المأساة التي تتكشَّف.
تحتوي أفلام السبعينيَّات على العديد من الاقتباسات الواضحة من أفلام أخرى، وغالبًا ما تكون على شكلِ تحيَّةٍ أو تعليق. على هذا النحوِ لا يتوقَّف براين دي بالما عن إعادة استكشاف هيتشكوك، وخاصَّةً إعادة تصوير مشهد الحمامِ في فيلم «سايكو» (Psycho) دون تقديمِ اقتباسٍ صريح. هذه التقنيَّة استُخدِمت بشكلٍ متكرِّرٍ في فتراتٍ أخرى من تاريخ السينما. من بين العديد من الأمثلة، أودُّ التوقُّف عند الاقتباس المأخوذ من فيلم «الملكة كيلي» (Queen Kelly - 1928) لـ إيريش فون شتروهايم في فيلم «سانسيت بوليفارد» (Sunset Boulevard - 1950) لـ بيلي وايلدر. هذا الاقتباس يظهرُ في منتصف الفيلم تقريبًا، وذلك عندما يكون "جو غيلِّيس" (والذي أدَّى وِليَم هولدن دوره) مقيمًا في منزل "نورما ديزموند" (والتي قامت غلوريا سوانسون بتأدية دورها) ويكتشف أنَّها تمتلكُ غرفةَ عرضٍ خاصَّةٍ حيث لا تشاهدُ سوى أفلامَها القديمة من فترةِ مجدها، في عصر السينما الصامتة (cinéma muet). يتعلَّق الاقتباس الصريح الوحيد بالفيلم قبل الأخير الذي أخرجه شتروهايم، والذي يجسِّدُ في فيلم وايلدر شخصيَّة "ماكس فون مايرلينغ"، خادمُ نورما والمخرج السابق الذي ضاع مجده. تزداد حدَّة السخرية عندما نُدرك أنَّه وبسبب غلوريا سوانسون إلى حدٍّ ما، التي كانت أيضًا شريكة في إنتاج الفيلم واستاءت من بعض مطالب المخرج، لم يتمكن شتروهايم من إنهاء فيلمه. بالإضافةِ إلى أنَّ هذا الاقتباس يعكسُ النرجسيَّةَ المتطرِّفةَ والمَرَضيَّة لدى نورما، فإنَّ اختيار المشهد له دلالةٌ مهمَّة. إنَّه المشهد الذي تذهبُ فيه البطلة للصلاة في كنيسة. تظهرُ سوانسون راكعة، يداها مشبوكتان، داخل هالةٍ من الضوء ومحاطة بالشموع. إنَّ تعابير الوجه تظهرُ الخشوع في الصلاة. هذا المشهدُ المثالي والمتسامي يعطي على الأقل فكرةً جزئيَّةً عن الفيلم والشخصيَّة، التي تجدُ نفسها بعد عدَّة مغامراتٍ داخل بيت دعارةٍ في شرق إفريقيا، محاطةً بشخصياتٍ منحطَّة، بما في ذلك مُعوَّقٌ شهواني. لذا فإنَّ الاقتباس يؤدِّي هنا وظائف متعدِّدة إلى جانب التحيَّة الواضحة لـ شتروهايم، ويتسم بسخرية لاذعة إذا كان المرء على دراية بالقصة الكاملة لفيلم «الملكة كيلي»، وكذلك بظروف إنتاجه.
تتمثَّل إحدى أشكالِ الاقتباسِ الصريح في الاقتباس الذاتي، بالإضافةِ إلى ممارسة فينسنتي مينلِّي في فيلمه «أسبوعين في بلدةٍ أخرى» (Two Weeks in Another Town - 1962). في هذا الفيلم الذي تدور أحداثه في روما، ويتحدَّثُ عن نهاية العصر الذهبي لهوليوود وعمليَّات اللامركزيَّة في "شينِشيتا" (Cinecittà)، يقتبسُ مينلِّي بعد عشر سنواتٍ من فيلمه الخاص «السيِّئ والجميلة» (The Bad and the Beautiful - 1952)، إلَّا أنَّه ينسبُ الاقتباس إلى المخرجُ المتخيَّل "موريس كروغر" (والذي قام إدوارد ج. روبنسون بتأدية دوره). وبهذا يخلقُ لعبة مرايا ساخرة (ونوستالجيَّة) بين فترتين وشخصيَّتين: هو نفسه (المؤلِّف المعروف) وكروغر (المخرج الساقط). يرتبطُ الفيلمان أيضًا بوجود كيرك دوغلاس الذي يجسِّدُ في فيلم «السيِّئ والجميلة» شخصيَّة "جوناثان شيلدز"، المنتج القوي الذي، وفي المشهد المقتبس، يقومُ بإلقاء "جورجيا"، ممثِّلته المدمنة على الكحول (وأدَّت دورها لانا تورنر)، في بركة سباحة؛ وفي فيلم «أسبوعين في بلدةٍ أخرى» يجسِّد شخصيَّة "جاك أندروس"، الممثِّل الذي، وبعد إقامةٍ طويلةٍ في مصحٍّ نفسي، يولد من جديد كمخرج. كما يُتيحُ نظام العرضِ أيضًا مقارنة ردود فعل المشاهدين المختلفين: النجمة الصغيرة ذات الملامح الكاريكاتورية، الممثِّل الكوميدي الشاب القريب من استوديو الممثِّلين، وكذلك المنتج الإيطالي البسيط، الذي يهتم فقط بعدم تجاوز ميزانيته.
الاقتباس الصريح الزائف
المقصودُ بالاقتباس الزائف هو الذي ينطوي على تحريف الوظيفة الأساسيَّة للاقتباس، أي الوظيفة التي تفترضُ إعادة انتاجٍ دقيقةٍ للمقتطف المقتَبس. يتمُّ التشكيك بـ مبدأ التوثيق من خلال الاقتباس (authentification par la citation) من قِبَل وودي آلن، الذي يقدِّم أحيانًا اقتباسات زائفة، خاصة في أفلامه «زليغ» و «الجرائم والجُنَح». يَفترِضُ الاقتباس الصريح الزائف وجودَ فيلمٍ ظاهرٍ على الشاشةِ لكنَّه لا يملكُ سوى وجودٍ خيالي ولا يتوافقُ مع أيَّ مرجعٍ خارج السياق السردي، كما هو الحال في فيلم «وردة القاهرة الأرجوانيَّة». في هذا الفيلم، يدرك المشاهد منذ البداية الطبيعةَ الخياليَّةَ لـ "الاقتباس". يلعبُ وودي آلن على وجود جمهورين: الأول هو جمهور الخيال الذي يشاهدُ في ثلاثينيات القرن الماضي عرضَ الفيلم بالأبيض والأسود، والثاني هو الجمهور الذي يشاهدُ فيلم وودي آلن. نلاحظُ وجودَ تباينٍ في ردود أفعالِ الجمهورَين في القاعتَين. في الوقت الذي يبدو جمهور السياق السردي (public diégétique) مستغرقًا في الحبكة، فإنَّ الضحكات التي يثيرها فيلم آلن لا تأتي بقدرٍ كبيرٍ من طبيعة الفيلم نفسه (فيلم مغامرات يحتوي على عناصر من الكوميديا الخفيفة والكوميديا الراقية[12])، بل تأتي نتيجةَ التباين الذي يدركه المشاهد بين هذه المحاكاة وبين فيلمٍ أصيلٍ من تلك الفترة على غرار «وقتُ المَيل» (Swing Time - 1936) و «المطلَّقة السعيدة» (The Gay Divorcee - 1934). يظهرُ التباين بوضوحٍ من خلال المبالغة في المواقف والحوار، والذي يُعدُّ بمثابة تكثيفٍ ساخرٍ للكوميديا الهوليوودية التي كانت سائدةً في ذلك الوقت. هنا المحاكاة تتجلَّى على المستويين الموضوعي والشكلي، حيث يحاكي جينيريك البداية جينيريكات الأفلام في تلك الحقبة باستخدام بطاقاتٍ باستخدامِ بطاقاتٍ تحملُ النصوص التوضيحية، مع الموسيقى ذات الطابع الشرقي الزائف، وديكورات المَشرَفة (Penthouse) الفاخرة، بالإضافة إلى الخلفيَّات المصنوعة من الورق المقوَّى التي تمثِّل الديكورات المصرية. إنَّ حيويَّة وحِدِّة الحوارات، إلى جانب الأسلوب السينمائي الكلاسيكي {كالمونتاج الشفاف (montage transparent)، واللقطة واللقطة العكسيَّة (Shot/reverse shot)}، وكذلك تدرُّجات الأبيض والأسود، تُذكِّرنا بالأفلام الكوميديَّة التي تعود إلى العصر الذهبي. ومع ذلك نلاحظُ وجود تناصٍ أكثر تحديدًا يمكنُ التعرُّف عليه من خلال شخصيَّة "توم باكستر" المستكشف. إذ تستحضرُ خوذته الاستعماريَّة شخصيَّة "الكابتن سبولدينغ" بوضوح، والتي جسَّدها غروتشو ماركس في فيلم «مقرمشات حيوانيَّة» (Animal Crackers) من إخراج فيكتور هيرمان عام 1930، وهذه الشخصيَّة تجمعُ ما بين الطابع الاستعماري الزائف والأجواء الراقية لـ "أفراد المجتمع المخملي". يدخلُ الكابتن سبولدينغ بطريقةٍ مسرحيَّةٍ إلى صالونات حاميته "السيِّدة ريتنهاوس" (والتي جسَّدت مارغاريت دومونت دورها) رفقة حمَّاليه السود على وقع أصوات الطبول. ومع ذلك فإنَّ الشخصيَّتين مختلفتان بوضوح: سبولدينغ رجلٌ محتالٌ ومتلاعبٌ ماكر، في حين يُعتبرُ باكستر مثاليًّا رومانسيًّا وساذجًا {سيكرم وودي آلن مرة أخرى شخصية سبولدينغ في المشهد الختامي لفيلمه «الكلُّ يقولُ أحبُّكِ» (Everyone Says I Love You)}.
في فيلم «زليغ»، وفي إطار ما يتَّضحُ أنَّه فيلمٌ وثائقيٌّ هزلي (Mockumentary[13])، يقدِّم لنا وودي آلن اقتباسًا سينمائيًا زائفًا لقصة ليونارد زليغ بعنوان «الرجل المتغير» (The Changing Man)، والذي يُفترض أنَّه تمَّ تصويره عام 1935. قُدِّم مقتطفانِ عولجا بطرقٍ مختلفة. الأوَّلُ يحاكي الميلودراما الهوليووديَّة من خلال الاستعانة بتصويرٍ يعتمدُ على تباينِ الأبيض والأسود، وتقدُّمٌ بلاغيٌّ في التكوينات، ومونتاجٌ باستخدام "اللقطة واللقطة العكسيَّة" لتمثيل الصراع. إنَّ أداء الممثِّلين متعمَّدٌ بشكلٍ مبالغٍ فيه، والموسيقى الغنائية تضفي طابعًا دراميًا على الصورة. هذا المقتَطَف يعزِّزُ وهم الواقع. من خلال تسليط الضوء على مدى انتشار ظاهرة «زليغ» التي تأسرُ الخيال الجماعي وتولِّدُ قصصًا جديدة، فإنَّه يعزِّزُ وهم الإشارة إلى الواقع. وبالتالي فإنَّ الزيف (الفيلم الإطار المُقتبَس منه - film cadre citant) يُنتجُ زيفًا آخر (الفيلم المؤطَّر المقتبِس - film encadré cité). أمَّا فيما يتعلَّق بالمقتطف الثاني من الفيلم الخيالي، فثمَّة قراءةٌ مختلفةٌ يتمُّ اقتراحها على المُشاهد من خلال التحليل الذي قامت به، بعد مضيِّ أربعين عامًا، "الدكتورة يودورا فليتشر" (ممثِّلةٌ أخرى غير ميا فارو تلعب الدور) والتي لا تجد فيه "الحقيقة التاريخية"، وتشير إلى شكوكٍ حول قيمته كشهادة. هذا المقتطف الثاني يمثِّل أيضًا طريقةً ساخرةً للتعليق والتأكيد على الفجوة ما بين الاقتباساتِ السينمائية والواقع الذي تستلهم منه.
الاقتباس الضمني
تقدِّمُ سينما وودي آلن العديد من الأمثلة على ذلك، بعضها يمكنُ التعرُّف عليه وتفسيره بسهولةٍ أكثر من غيرها. في فيلم «مانهاتن»، يستحضرُ مشهد النزهة بالعربة بين ترايسي وآيزك مشهدًا مشابهًا جدًّا في فيلم «العربة» (The Band Wagon) لـ فينسنتي مينلِّي. هنا أيضًا تكون السخرية واضحةً بشكلٍ جلي. في الوقت الذي يمثِّلُ المشهد في فيلم مينلِّي تمهيدًا للمصالحة ومن ثمَّ الارتباط بين الثنائي فْريد آستير (بدور "توني هانتر")/سِيْد شاريس (بدور "غابرييلي جيرارد")، فإنَّ المشهدَ في فيلم آلن يمثِّل اللحظة الرومانسية الأخيرة في العلاقة (بحيث يصف آيزِك فكرة هذه النزهة بأنَّها "مبتذلة"). أمَّا فيلم «الجرائم والجُنَح» فيقدِّمُ اقتباسًا ضمنيًّا من أعمال هيتشكوك، دون إمكانيَّة تحديد فيلمٍ معيَّنٍ بصورةٍ دقيقة. إنَّنا أقربُ إلى تشابهٍ موضوعي (analogie thématique)، ولكنَّه يترافق مع محاكاةٍ شكليَّةٍ (imitation formelle) أيضًا. المشهد هو مشهدُ عودة "جوداه" إلى مسرح الجريمة التي لم يرتكبها بنفسه بل أمر بتنفيذها، حيث يكتشفُ جثَّة جثَّة دولوريس. بالتأكيد يستحضرُ المشهد فيلم «نوبة» (Frenzy) بشكلٍ خاص، خاصَّةً في اللقطة المقرَّبة على وجه الضحية وعينيها المفتوحتين على اتِّساعهما، إلَّا أنَّ التكوينات المجازيَّة في المَشاهد تذكِّر أيضًا بفيلم «غرباء في القطار» (Strangers on a Train)، لا سيَّما في بداية الفيلم، وكذلك مشهد الجريمة. تشيرُ نُدرة اللقطات المقرَّبة في أفلام وودي آلن إلى رغبته في محاكاة أسلوب مخرجٍ آخر. إنَّ الإشارة الهيتشكوكيَّة تتجلَّى بشكلٍ أكثر وضوحًا في فيلم «لغز جريمة قتلٍ في مانهاتن»، حيث تتَّخذ أشكالًا متنوِّعةً جدًا[14]. في فيلم «امرأةٌ أخرى» (Another Woman)، من الواضح أنَّ نصَّه الأساسيَّ ذو طابعٍ بيرغماني[15]، وتحديدًا فيلم «الفراولة البريَّة» (Wild Strawberries). يعدُّ المشهدُ الأوَّل من الفيلم استنساخًا لفيلم بيرغمان، إلَّا أنَّ آلن يقلِّد (عن وعي؟) مشهدًا آخر شهيرًا من فيلم «المرأة القطَّة» (Cat People) لـ جاك تورنور، وهو مشهدُ المطاردة في "سنترال بارك". في هذا المشهد نجدُ نفسَ الوضعيَّة المتمثِّلة في التتبُّع الليلي على طول شارعٍ مضاءٍ بشكلٍ خفيفٍ وعلى امتدادِ جدارٍ يحيطُ بالمكان، مع استخدام نفس زوايا التصوير المجازيَّة التي تتناوبُ بين الجزء العلوي والجزء السفليِّ من الجسم، واستعمالٌ مشابهٌ لتقنيَّة المونتاج المتناوب بين "ماريون" (والتي أدَّت جينا رولاندز دورها) و "هوب" (والتي جسَّدت ميا فارو دورها)، ونفس الأجواء الصوتيَّة التي تتضمَّن طرطقة الكعوب على الرصيف، بالإضافة إلى العمل المماثل في إسقاط الظلال، بل وحتى "تأثير الحافلة[16]" (L'effet-bus) النهائي، مع خروج "كلير" وزوجها من المسرحِ بصوتٍ مسموعٍ بشكلٍ خاص. ومع ذلك يقدِّمُ آلن بعض التفاوتات. ترافقُ الكاميرا المطارِدة (ماريون) أكثر من المُطارَدة (هوب) التي من الواضح عدم انتباهها بأنَّها مُلاحَقة. وتختفي هوب المُلاحَقة من إطار الصورة لتعاودَ الظهور بعدها بقليل. كما أنَّ هوب هي التي تخضعُ لمعالجةٍ فنيَّةٍ تتعلَّق بتشويه الظلال، ممَّا يضيف لمسةً غير مألوفة، إن لم تكن خياليَّة، إلى الفيلم. يقدِّمُ المشهدُ تحيَّةً مستترةً لمخرج أفلام الرعب الكبير جاك تورنور، وذلك في فيلمٍ لا يرتبطُ كثيرًا بسينما النوع.
شأنه شأن آلن، يستخدمُ رومان بولانسكي الإقتباس الضمني في أفلامه. في فيلم «الحي الصيني» (China Town) يحاكي بولانسكي المشهد الافتتاحي لفيلم «الصقر المالطي» (The Maltese Falcon – إخراج جون هيوستن، 1941)، أي المشهد الذي يتمُّ فيه الاتِّفاق بين "سام سبايد" (وأدَّى دوره همفري بوغارت) و "بريغيد أوشونْيِسِّي" (وأدَّت دورها ماري آستور). الفيلم بأسره هو تحيَّةٌ نوستالجيَّة وساخرة لأفلام النوار، غير أنَّ هذا المشهد وبلا شك هو الأكثر تميُّزًا وقابليَّةً للتعرُّف عليه. الشخصيَّة التي تقدِّمُ نفسها على أنَّها "السيِّدة إيفلين موراي" هي في الواقع مُحتالة، تمامًا مثل شخصيَّة "بريجيد" في فيلم هيوستن. الفرق هو أنَّ بريجيد (واسمها الحقيقي هو "روث ووندرلي") تخفي هويَّتها عن قصدٍ لإخفاء دوافعها الحقيقيَّة (البحثُ عن تمثالِ صقرٍ يحتوي على كنز)، في حين أنَّ "إيدا سيشنز" (ولعِبَت ديان لاد دورها)، المنتحلة لشخصيَّة "إيفلين مولراي"، ليست أكثر من ممثِّلةٍ مأجورةٍ من أجلِ تقمُّص هويَّة شخصٍ آخر، وليست سوى أداةٍ في مؤامرةٍ أكبر بكثيرٍ يديرها والد إيفلين (والذي يؤدِّي دوره هيوستن نفسه، في إشارةٍ مرجعيَّةٍ أخرى)، وستدفع حياتها ثمنًا لمشاركتها. استوحي اخراجُ هذا المشهد بشكلٍ مباشرٍ من المشهد المماثلِ في فيلم هيوستن، وهو ما يعدُّ تحيَّةٍ واضحةً للمخرج الكبير. من الممكن أن نلاحظَ على وجه التحديدِ المظهر العام والقبَّعة الباروكيَّة للشخصيَّة، والتي تذكِّرنا بتصفيفة الشعر المنمَّقة والعتيقة بعض الشيء لماري آستور، المجسِّدة لدور بريجيد في الفيلم.
يمتازُ الاقتباس الضمني بأنَّه لا يعيق الاستمراريَّة السرديَّة في الفيلم الرئيسي، كما يضيفُ بُعدًا ترفيهيًّا أكثر بروزًا. يُدعى المشاهد إلى استخدام ذاكرته السينمائيَّة لمحاولة تحديد المصدر، ولكن هذا النوع من الاقتباسات يكون أكثر غموضًا ولا يشير بالضرورةِ إلى مشهدٍ أو حتى إلى فيلمٍ معيَّن. وهكذا في فيلم «سليبي هولو» (Sleepy Hollow) لـ تيم برتون، وهو سينمائيٌّ شغوفٌ آخر ومحبٌّ للسينما الشعبيَّة (cinéma populaire)، تتواجدُ الاقتباسات الضمنيَّة بكثرةٍ وتنوُّع، في حين لا يتواجدُ أيَّ اقتباسٍ صريح. بوضوحٍ يشيرُ المشهدُ الذي يختبئُ فيه طفلٌ تحت لوحٍ خشبيٍّ، ويشهدُ على مقتلِ والديه، إلى فيلم «المطارد» (Pursued - 1947) لـ راؤل والش. أمَّا المشهدُ الحُلُمِيُّ لعذراء الحديد فيشيرُ إلى فيلم ماريو بافا «قناع الشيطان» (La maschera del demonio - 1960). بالإضافة إلى أنَّ الفيلم مليءٌ أيضًا بإشاراتٍ ضمنيَّةٍ إلى أفلام الرعب التي أنتجتها شركة "هامر". تظهرُ هذه التحيَّة للاستوديو البريطاني أوَّلًا عبر اختيارات طاقم التمثيل. من الواضح أنَّ اختيار كريستوفر لي، الممثل الأيقوني لشركة "هامر" وأحد الرموز الثقافيَّة الحقيقيَّة، ليس اختيارًا عشوائيًّا. وبنفس الطريقة التي يقدِّمُ فيها «فنسنت» (Vincent – أوَّل فيلمٍ قصيرٍ لـ برتون من إنتاج عام 1982)، وكذلك فيلم «إدوارد ذو يدَي المقصَّات» (Edward Scissorhands)، تحيَّةً للممثِّل فنسنت برايس، وهو الممثِّل المفضَّل في أفلام روجر كورمان، يحتفي فيلم «سليبي هولو» بكريستوفر لي. كما يذكِّرنا ماكياج كريستوفر ووكن بماكياج كريستوفر لي في فيلم «دراكولا» (Dracula – إخراج تيرنس فيشر عام 1958)، إلى جانب الأسنان الحادَّة وتعابيرِ الوجه المميَّزة. كما ويظهرُ ممثِّلٌ آخرُ مألوفٌ من أفلام "هامر" ضمن طاقم التمثيل. إنَّه مايكل غوف الذي جسَّد دور الزوج البرجوازي والمتحفِّظ لـ "مينا هاركر" (والتي أدَّت ميليسا ستريبليغ دورها) في فيلم «دراكولا».
يزخرُ فيلم بِرتون بالديكورات والرموز المستوحاة من أفلام "هامر". كما أنَّ الطاحونة المشتعلة تذكِّرنا، بالإضافة إلى فيلم «فرانكنشتاين» (Frankenstein) لـ جيمس وايل {الذي أعيدت صياغته بشكل واسع في «فرانكنويني» (Frankenweenie) الذي يعدُّ تحيَّةً أخرى لـ وايل، كذلك فيلم «ابن فرانكنشتاين» (Son of Franloenstein)} بفيلم «عرائس دراكولا» (The Brides of Dracula) لـ فيشر، حيث تدور كافَّة أحداث المشهد الختامي في طاحونةٍ ويُقتلُ مصَّاص الدماء بواسطة الظلِّ المتقاطعِ لأجنحة الطاحونة. كما تذكِّرنا المناظر الطبيعيَّة الغريبة الخالية من أصوات الطبيعة بمشهدِ وصول "جوناثان هاركر" في فيلم «دراكولا»، حيث توضح الرواية الصوتيَّة أنَّه وعند الاقتراب من القلعة، لم يعد بالإمكان سماع زقزقة الطيور. إنَّ شخصيَّة الغرغونة التي ضخَّمها بِرتون وأعاد تكرارها مع جميع الرؤوس المقطوعة (خاصَّةً اللقطة المقرَّبة لرأسِ ماسباث، بفمه المفتوح المشوَّه بفزع، وهو ما يذكِّرنا باللوحة الشهيرة لـ كارافادجو) تشيرُ إلى فيلمٍ آخر من إنتاج "هامر"، ألا وهو «الغرغونة» (The Gorgon – 1964)، حيثُ تظهرُ شخصيَّة الغرغونة فيه بشكلٍ مشابهٍ جدًّا لتلك التي تجسِّدها الساحرة في غابات الغرب (بعيونٍ على زنبركاتٍ تندفعُ من مآقيها، ولسانٌ أفعواني). هذه الشخصيَّة تستحضرُ أيضًا فيلم «ساحر أوز» (The Wizard of Oz - 1939) لفيكتور فليمنغ.
يستمتعُ بِرتون بإعادة إنتاج لوحة الألوان المميَّزة لأفلام "هامر". إنَّ التدفُّق الأحمر في البداية هو اقتباسٌ ضمنيٌّ من جينيريك أوَّل فيلمٍ بالألوان عن دراكولا، أي «رعب دراكولا» (Horror of Dracula – وهو نفس فيلم تيرنس فيشر الذي أشرنا إليه منذ قليل)، حيث تُرى قطرات الدم وهي تقطُرُ فوق قبرِ الكونت دراكولا. في فيلم «دراكولا: أميرُ الظلام» (Dracula: Prince of Darkness) يُبعث مصَّاص الدماء مجددًا بواسطةِ دمِ ضحيَّةٍ مذبوحةٍ يتدفَّق على رماده. إنَّ كافَّة تحويلات رواية "فرانكشتاين" إلى أفلام تتضمَّنُ مشاهد لعمليَّةٍ جراحيَّة. في فيلم «ينبغي تدمير فرانكنشتاين» (Frankenstein Must Be Destroyed) يقدِّمُ لنا فيشر مشهدًا في منتهى الجمال لعمليَّة قطع رأسٍ في مطلع الفيلم، وذلك عندما يقوم "البارون فرانكنشتاين"، المرتدي قناعًا بشعًا لإخفاء هويَّته الحقيقيَّة، بقطعِ رأسِ طبيبٍ محترمٍ عند عتبة بابه، فيتناثر الدم ليصيب لوحة الإسم الخاصَّة بالطبيب، مثلما يلطِّخُ دمُ الضحيَّةِ الدمى في بداية فيلم «سليبي هولو». يستحضرُ تدفُّق اللون الأحمر أثناء تشريحِ الجثَّةِ مشاهدَ مماثلة أثناء القضاء على مصَّاصي الدماء. إنَّ نموذج مصَّاصي الدماء حاضرةً بقوَّةٍ في الفيلم، خاصَّةً في المشهد الختامي الذي يتضمَّن القبلة الدامية. كما أنَّ اللون الأزرق يتكرَّر في أفلام "هامر"، خاصَّةً في المشاهد الليليَّة، كذلك في ملابس النساء، على غرار فستان المرأة الخائنة للدكتور جيكل في فيلم «وجها الدكتور جيكل» (The Two Faces of Dr Jekyll) لـ فيشر. من هنا جاء الديكور المُزرق في مشهد السفر الليلي عبر الغابة، والذي يستحضرُ أيضًا أفلام السينما الصامتة الملوَّنة على غرار «نوسفيراتو» (Nosferatu).
يحاكي جوني ديب حركات بيتر كوشينغ، والذي غالبًا ما يجسِدُ في أفلام "هامر" شخصيَّة العالِم أو المحقِّق العقلاني. في إحدى مقابلاته صرَّح برتون بأنَّه نصحَ ديب عن عمدٍ بالاستلهام من كوشينغ و برايس. كما يستحضرُ الزي الصارم لشخصيَّة "إيخابود"، بجسده المشدودِ داخل معطفٍ أسود طويل، أزياء بيتر كوشينغ الذي جسد أيضًا دورَ متعصِّبٍ متشدِّدٍ وسادي (مثل والد إيخابود) يعذِّب الساحرات في فيلم «الجنرال الباحث عن الساحرات» (The Witchfinder General).
حتى موسيقى داني إلفمان تُحاكي إلى حد كبير موسيقى كبار المؤلفين في أفلام "هامر"، وخاصة جيمس برنارد، من خلال الدور البارز للآلات النحاسية والإيقاعية، واعتماد مبدأ الـ"لايتموتيف" (leitmotivs) الذي يتم تكراره وتطويره على مدار الفيلم.
كما تمَّ التأكيدُ على الإشارة إلى ماريو بافا في عدَّة مقابلات. يُعدُّ برتون معجبًا كبيرًا بسينما بافا، خاصَّةً فيلم «قناع الشيطان» الذي يتناول أيضًا شخصية ساحرةٍ ويعتمد سيناريو الفيلم على قصَّة انتقام، وهو ما يتقاطع مع بعض ثيمات أعمال برتون. إنَّ أكثر الاستعاراتِ وضوحًا تتعلَّق بفكرة "العذراء الحديديَّة"، أداة التعذيب المستخدمة لمعاقبة الساحرة في مطلع فيلم بافا، والتي أعاد برتون استخدامها كأداةٍ لعقابِ والدة إيخابود في مشهدٍ مرعبٍ للغاية {أيضًا تذكِّرنا تدفُّقات الدم بمشهدِ المصعد الشهير في فيلم «البريق» (The Shining)}. في المقابل ينقلُ برتون دافع الانتقام إلى شخصيَّة الساحرة الأخرى "ليدي فان تاسل" (والتي جسَّدتها ميراندا ريتشاردسون)، ربَّما للحفاظ على الطابع المثالي والإثيري للأم. إنَّ التشابه بين ليزا ماري و باربرا ستيل، الممثِّلة التي جسَّدت دور الساحرة في فيلم «قناع الشيطان» وتعتبر "ملكة الصراخ" الأيقونيَّة في تلك الحقبة واحتفي بها في عديد المجلَّات مثل Midi-Minuit Fantastique، هو تشابهٌ لافتٌ ومثيرٌ للحيرة، ومن المرجَّح أنَّه مقصودٌ من قبل برتون.
بشكلٍ أوسع، يستعيرُ الفيلم بعض العناصر من أفلام الـ "جيالو"، وهو مصطلحٌ يشيرُ في الأصلِ إلى مجموعةٍ من الروايات البوليسية (من نوع السلسلة السوداء)، والذي تطوَّر ليصفَ الأفلام التي تجمع بين الحبكة البوليسيَّة والعناصر المرعبة، حيث تدمجُ بين العنف الجرافيكي والإيروتيكا، وتتميَّز بعرضِ جرائمَ قتلٍ متسلسلةٍ يرتكبها قاتلٌ غامض، غالبًا ما يكون مقنَّعًا ومرتديًا قفازات. كما يجري التركيز على أدوات الجريمة، والتي دائمًا ما تكونُ أسلحة بيضاء على غرار السكاكين والمقصَّات وأحيانًا الفؤوس، بالإضافة إلى الثيمة المستمرَّة للدم. يستخلصُ برتون من أفلام الـ "جيالو" مفهوم الجريمة المتسلسلة، والقاتل الغامض مجهول الهويَّة، وبالتأكيد العنف والوحشيَّة في الجرائم، وثيمة الدم. إنَّ القاتلة الماكرة قريبةٌ جدًّا من مجرمي أفلام الـ "الجيالو". يمكننا أيضًا ملاحظة ثيمة السلاح الأبيض والتشويه أو الإيذاء الذاتي (عندما تفتح راحة يدها، الجرح الذي يعملُ بوضوحٍ كبديلٍ للجنس الأنثوي، والمشهد الذي يقوم فيه القس بلعق الجرح). يمكننا أيضًا أن نذكر أهميَّة موضوعِ القناع (ليس الساحرة فقط، بل أيضًا ليدي فان تاسل). كما أنَّ العمل المعتنى به جيِّدًا للألوان، أي البحث الجمالي، هو سمةٌ مشتركةٌ أخرى بين برتون وبافا.
في بعض الأحيان، وكما هو الحال في فيلم «دراكولا» (Dracula) لـ فرانسيس فورد كوبولا، تُقدَّم بعض الاقتباسات كتكريمٍ لتاريخ السينما، على غرار الاقتباس المأخوذ من فيلم «الجميلة والوحش» (La Belle et la Bête) لـ جان كوكتو، أو الإشادات بفيلم «دراكولا» (Dracula) لـ تود براونينغ، أو حتَّى «رعب دراكولا» لـ فيشر (في مشهد تثبيت "لوسي ويسترنا")، ومع ذلك فهناك اقتباساتٌ أخرى لم يُشَر إليها، خاصَّةً تلك المأخوذة من فيلم «دراكولا» (Dracula) لـ جون بادام. وهكذا فإنَّ مشهدَ الحفلةِ حيث يضاءُ الديكور بمئاتِ الشموع هو نسخةٌ طبق الأصل من مشهدٍ مشابهٍ للغاية في فيلم بادام، المشهدُ الذي فيه يستقبل دراكولا "لوسي" في القلعة. كما يستعير كوبُّولا من المخرجين الأقل شهرةٍ أيضًا. وعلى هذا النحو فإنَّ موضوع التقمُّص وعنصرُ صندوق الموسيقى مستوحيان من فيلم «دراكولا» (Dracula - 1974) من إخراج دان كورتيس وبطولة جاك بالانس. وهكذا فإنَّ الاقتباس الضمنيَّ يحتفظُ أحيانًا بشيءٍ من الغموض أو عدم التحديد فيتيحُ طرحَ نوعٍ آخر من التساؤلات، ألا وهو مسألة ازدواجيَّة المخرجِ الذي لا يعترف بالضرورة بجميع مصادِره أو يخفيها لتجنُّبِ أيَّ تحديدٍ مباشرٍ لها.
تتيحُ دراسةَ شبكة الاقتباسات في فيلمٍ ما استكشاف البعد الجيني للنص، بالإضافة إلى مصادره وتأثيراته. فهو يحيلُ المُشاهِد إلى جزءٍ أو أجزاء من عملٍ خارجي، ممَّا يستدعي العودة إلى هذا العمل، ومؤلِّفه وأيضًا سياق انتاجه. إذًا فالإقتباس يتطلَّبُ عملًا تحقيقيًّا يتضمَّن التعرُّف على "النص الأساس" وتحليله. يقيمُ الاقتباسُ علاقاتٍ متعدِّدةٍ مع "الفيلم الإطار المُقتبَس منه" الذي يدمجه في لحظةٍ محدَّدةٍ من سرده، ممَّا يؤدي إلى مجموعةٍ متنوِّعةٍ من الألعاب الدلاليَّة، وقد رأينا بعضَ الأمثلة على ذلك. تُطرح هنا مسألة عدد مرَّات الاقتباس، وتنوعها وتوقيتها، وكذلك الآليات الخاصَّة بإدراجِها (سواء كانت مبرَّرةً أو لا من خلال موقفٍ سرديٍّ يتضمَّن عرض فيلمٍ داخل الفيلم). يطرحُ الاقتباس الضمني على وجه الخصوص مشاكل معقَّدة. ليس من السهل دائمًا تحديد الاقتباس، إذ يتطلَّب التعمُّقَ في دوافعِ المخرجِ الذي يستخدمه، وذلك لفهم الأهداف التي يسعى لتحقيقها من خلال هذا الاستعمال. في نهاية المطاف، يثيرُ الاقتباس عمليَّة تفسيرٍ تتعلَّقُ بوظيفته السرديَّة أو الاستعاريَّة، وربَّما حتَّى الميتافيلميَّة، ويعيدُ تشكيل معنى المشهد ويدعو إلى إعادة قراءة العمل. كما أنَّه يشجِّع على إقامةِ علاقةٍ تفاعليَّة، وغالبًا ما تكون ممتعة، مع الفيلم الذي تتمُّ مشاهدته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش
1.أنظر على وجه الخصوص
Gérard Genette, Palimpsestes, Seuil, 1982.
2.أنظر
Laurent Jenny, « La stratégie de la forme », Poétique no 27, 1976.
3.أنظر على وجه الخصوص
Antoine Compagnon, La seconde main ou le travail de la citation, Seuil, Paris, 1979.
4.أنظر:
Voir Cogeval Guy et Païni Dominique (eds), Hitchcock et l'art, coïncidences fatales, Centre Pompidou, Mazzotta, 2000.
5.حول هذا الموضوع، أنظر:
Angela Dalle Vacche, Cinema and Painting, Austin, University of Texas Press, 1996.
6.فيلم من إخراج هربرت روس، لكن وودي آلن لعب دورًا كبيرًا فيه بصفته مؤلف المسرحية الأصلية، وكاتب السيناريو، والممثل الرئيسي.
7.هذا الفيلم هو «كلايف الهند» (Clive of India - 1935) من إخراج ريتشارد بوليسلافسكي. يساعد الملصق في تحديد الفترة الزمنية.
8.ينظرُ ميشيل إلى ملصق فيلم «سقوطهم الأصعب» (The Harder They Fall - 1956) من إخراج مارك روبسون، إضافةً إلى صور بوغارت، وتتناوبُ لقطاتٌ مصوَّرة لوجه بوغارت بإطارٍ كاملٍ مع لقطاتٍ لوجه ميشيل الذي يقلِّدُ حركاته.
9.أنظر:
Christian Metz, Le signifiant imaginaire, Christian Bourgois, Paris, 1984.
10.أنظر:
Elena Dagrada, Woody Allen. Manhattan, Editions Lindau, Turin, 1996.
11.من أجلِ تحليلٍ أكثر تفصيلًا، أنظر:
A. J. J. Cohen, « La citation du Mépris de Godard dans Casino de Scorsese. Du détail iconophage », La Licorne VI. « Le cinéma en détails » (1999), p. 193-206.
12.من الصعب بالطبع فصل الفيلم المؤطَّر كما صمَّمه وودي آلن لاحتياجات فيلمه الخاص عن فيلمٍ مماثلٍ قد يحمل موضوعًا مختلفًا. يمكن الافتراض أن الفيلم الآخر قد يبرز بشكل أكبر نوعًا من الفكاهة "على الطريقة الإنكليزية"، التي ترتبط بشكل أكبر بتأكيد الانتماء الطبقي.
13.اتَّضح لنا، في سياق البحث، أنَّ كاتب المقال خلط ما بين الوثائقي الزائف (Pseudo-documentary) والوثائقي الهزلي (Mockumentary)، واللذان يختلفان تمامًا، فالوثائقي الزائف هو فيلم أو إنتاج فيديو يأخذ شكل أو أسلوب فيلم وثائقي ولكنه لا يصور أحداثًا حقيقية، وبدلًا من ذلك يتم استخدام العناصر النصية والخيالية لرواية القصة؛ أمَّا الوثائقي الهزلي فيعتبر عادةً من أصناف الكوميديا على الرغم من وجود بعض الأعمال منه ذات الصبغة الجدية، يتم تقديم هذا النوع من الأعمال على أنه تسجيل وثائقي لعرض حياة حقيقية ولكن في الحقيقة هذه الحياة هي خيالية. وبعد التحقُّق من فيلم Zelig، تبيَّن لنا أنَّ المقصود لدى الكاتب هو "الوثائقي الهزلي"، لهذا قمنا باعتماد هذا المصطلح (المترجم).
14.اقرأ مقال الكاتب حيال هذا الموضوع:
Voir mon article à ce sujet, « Woody Allen et le film noir : l'art de la citation », La Licorne Hors-série - Colloques VIII, Poitiers, UFR langues Littératures, mai 1999.
15.نسبةً إلى إنغمار بيرغمان
16.هو أسلوب فني يستخدم في السينما، خاصة في أفلام الإثارة أو الرعب. يعتمد على إنهاء مشهد تصاعد فيه التوتر عبر خفضه بشكل مفاجئ بوساطة عنصر خارجي، مثل قطة تعبر الغرفة. يُعد المخرج الفرنسي الأمريكي جاك تورنور مبتكر هذا الأسلوب.