ذات ليلة ماطرة في باريس، عام 1970م، كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل بربع ساعة، وكان المخرج الشاب «برناردو برتولوتشي» يقف في الخارج بانتظار معلمه، رائد الموجة الجديدة، «جان لوك غودار» ليعرف رأيه في فيلمه الجديد The Conformist «الممتثل» بعد عرضه الأول في فرنسا. هذا المشهد الواقعي ربما يُشاهد ذات يوم في فيلم سينمائي عن حياة برتولوتشي.
بعد عقود من عرض الفيلم -في عام 2008- يقول برتولوتشي في مقابلة مع «ستيوارت جيفريز»: «كان غودار معلمي الروحي، إلى درجة كنت أعتقد أن هناك سينما قبل غودار وسينما بعده، تمامًا مثلما نؤرخ للأحداث بقَبل المسيح وبعده. ولذلك كان رأيه في الفيلم يعني لي الكثير».
يستعيد برتولوتشي تفاصيل ذلك المشهد قائلًا: «لم يقل لي غودار شيئًا. ناولني قصاصة صغيرة عليها صورة للرئيس «ماو» وعبارة مكتوبة بخط غودار، الذي نعرفه من أفلامه: "عليك أن تحارب الفردانية والرأسمالية". كان هذا هو رد فعله على فيلمي. وكنت غاضبًا إلى درجة جعَّدتُ الورقة بيدي ورميتها. وقد تأسفت بعد ذلك لفعلي. وكم أرغب اليوم في الحصول عليها والاحتفاظ بها كتذكار».
الخلاص من تأثير الأب
كان برتولوتشي في السابعة والثلاثين من عمره، و«الممتثل» أول فيلم يبتعد فيه عن تأثير أستاذه، ذلك أن أفلام برتولوتشي السابقة، مثل: Before the Revolution «قبل الثورة» و The Spider's Stratagem «حيلة العنكبوت» وحتى The Grim Reaper «قابض الأرواح» كانت قد صُنعت تحت تأثير غودار.
كان القتل طريقة برتولوتشي في التعبير عن حبه، فبهذه الطريقة قتلَ والدَه، الشاعر الإيطالي «أتيليو برتولوتشي»، في كل أفلامه. وكان القتل يعني الخلاص من تأثير الأب وإثبات الذات إذ يقول: «من خلال تحليل فرويد، أدركت أن صناعة الأفلام هي طريقتي لقتل والدي. بطريقة ما أصنع أفلامًا من أجل متعة الشعور بالذنب. وقد تقبل والدي هذا ضاحكًا بقوله ذات مرة: "أنت ذكي للغاية. لقد قتلتني مرات عدة دون أن تُسجن"».
قبل أن يقتل برتولوتشي معلمه كان قد قتل «ألبرتو مورافيا»، صاحب رواية «الممتثل». قال له قبل تصوير الفيلم: «لكي أكون مخلصًا لكتابك، يجب أن أخونه». رد مورافيا: «أوافقك الرأي تمامًا» وبعد أن شاهد الفيلم، أثنى مورافيا على برتولوتشي، قائلاً إنه لم يحب سوى نسختين سينمائيتين مقتبستين من كتبه، إحداهما «الممتثل» والثانية فيلم غودار لعام 1962، فيلم Contempt «ازدراء»، مع «جاك بالانس» و«بريجيت باردو».
هل كان برتولوتشي يتوقع الثناء نفسه من غودار؟ وهل تخلص كليًا من تأثير معلمه؟
في فيلم «الممتثل»، يطلب «كليريسي» توصيله بـ«البروفيسور كُوادري»، أستاذ الفلسفة المعارض للنظام الفاشي والمحكوم عليه بالاغتيال (كان رقم الهاتف يخص جان لوك غودار) وعندما يجيب كوادري على الهاتف، يُذكِّره كليريسي بعبارة وردت في إحدى محاضراته: «لقد انقضى زمن التفكير وحان أوان الفعل». هذه العبارة هي النقيض من العبارة الافتتاحية في فيلم غودار «الجندي الصغير» (1963): «بالنسبة لي فإن زمن الفعل قد ولى، لقد نضجتُ الآن، وحان زمن التفكير». يمكن أن نرى فيما سبق تلميحًا إلى أن برتولوتشي هو الممتثل الراغب في قتل الراديكالي غودار، لكن لو أن الأمر اقتصر على قتل غودار ربما لغفر له، ويبدو أن رسالة الفيلم -إدانة الفاشية- هي ما لفتت اهتمام غودار، فلم يلتفت إلى التقنية السردية التي أدهشت مخرجين آخرين وأثرت فيهم كما سنرى، ليصبح برتولوتشي بهذا الفيلم أبًا لجيل جديد من المخرجين.
تصدر عبارة غودار -في فيلم «الجندي الصغير»- عن شاب -«برونو»- قرر الهروب من الجندية (زمن الفعل) وبدء حياة الفكر. أما عبارة برتولوتشي فتأتي على لسان كليريسي نقلًا عن أستاذ الفلسفة، الذي قرر التوقف عن تدريس الفلسفة وبدء فعل المعارضة للفاشية. ولعل في كلمة Reflection «تفكير» ومقابلتها Action «فعل»، ومضمون الفيلم نفسه وتقنيته السردية، إشارة إلى بداية جديدة لبرتولوتشي يتخلص فيها من تأثير غودار أو لا يكون مجرد انعكاس له، وربما يكون هذا سببًا إضافيًا لغضب غودار، وسنرى -عن طريق تحليل الفيلمين- كيف أن فيلم «الممتثل» هو نتاج تأثير عكسي لفيلم «الجندي الصغير».
فيلم «الممتثل» يدور حول شاب إيطالي ينضم طوعًا للفاشيين، ولإثبات ولائه يطلب منه الحزب أن يقتل أستاذه السابق المعارض والذي يعيش الآن في باريس. الأمر نفسه يحدث لـ«برونو» في فيلم «الجندي الصغير»، حيث يطلب الفرنسيون من برونو قتل الصحفي «باليفودا». بهذه الطريقة فقط يمكن لبرونو إثبات ولائه لفرنسا وأنه ليس عميلًا مزدوجًا.
يصور «الممتثل» انحطاط الطبقة الوسطى، وفيه تشخيص نفسي وفلسفي للعقلية الفاشية، وهذا ما أزعج غودار الذي كان قد بدأ خلال نهاية الستينيات بالاهتمام بالأيديولوجيا الماوية، وأنتج أفلامًا قصيرة عبرت عن وجهة نظره هذه. ولعل أكثر ما أزعجه في فيلم برتولوتشي هو الربط بين الفاشية والكبت الجنسي، لكن هناك من لم يعجبه الفيلم لسبب آخر مثل الناقد السينمائي والصحفي الأمريكي «جين سيسكل» الذي وصف فيلم «الممتثل» بأنه «حفلة أكثر منه قصة، فإذا كنت تبحث عن الموضة والأثاث فهذا هو المكان المناسب». انتقد سيسكل غياب القصة، ولعله كان يتوقع قصة بمسار خطي واضح اعتادها الجمهور وصناع السينما أنفسهم، وهذا ما لم يفعله برتولوتشي والفضل في ذلك يعود للمونتاج، كما سيأتي.
أن تكون إنسانًا عاديًا أو فاشيًا حقيقيًا
يبحث كليريسي عما يعتقده «حياة عادية» (طبيعية): أنشطة طبيعية، ومظهر طبيعي، وعواطف طبيعية، لكنه، كما يقول برتولوتشي: «يخلط بين الحياة العادية والامتثال، وفي سعيه للتوافق، يُخضع عواطفه المكبوتة بالفعل». التزام كليريسي حالة فريدة أو مختلفة، ويُعبّر عن ذلك مسؤول الحزب عندما يسأله: «هل خطر في بالك لماذا يريد الناس التعاون معنا؟ بعضهم يفعلون ذلك بدافع الخوف، والأغلبية من أجل المال، والقلة لإيمانهم بالفاشية. أما أنت، فأشعر بأنك لست محكومًا بأي من هذه الأسباب».
ثمة ازدواجية في شخصية كليريسي بين رغبته في أن يكون عاديًا أو طبيعيًا وبين رغبته اللاواعية في الاختلاف عن الآخرين. يقول: «في الصباح عندما أرتدي ملابسي أمام المرآة وأقارن نفسي بالآخرين، أشعر أني مختلف». المعنى نفسه يُعبّر عنه برونو في فيلم «الجندي الصغير»، قائلًا: «عندما أنظر إلى وجهي في المرآة، يبدو الأمر وكأنه لا يتطابق مع شعوري من الداخل». يقول «إيتالو» لـ«كليريسي» إن «الجميع يرغبون في أن يكونوا مختلفين عن الآخرين، أما أنت فترغب في أن تكون شبيهًا بشخص ما!»
لعل ذلك الشخص هو والد مارسيلو الذي كان فاشيًا ومسؤولًا عن تعذيب المعارضين وانتهى به المطاف في مشفى للأمراض العقلية. نجد في إشارة إيتالو جوابًا لسؤال مسؤول الحزب عن السبب الذي دعا مارسيلو للتطوع عميلًا لصالح الفاشية. قد يكون الدافع هو الرغبة في التماهي مع الأب وفي التفوق عليه في الوقت نفسه، وربما رغبته في الاختلاف عن أستاذه السابق -كوادري- أو الانتقام منه، لأنه تخلى عن دوره التنويري وفرَّ إلى فرنسا.
رغبة الجميع في الاختلاف ستتجلى في التعاون مع الفاشية كما عبَّر مصور الفيلم «سورارو». ولكي نفهم دوافع كليريسي، التي عجز مسؤول الحزب وإيتالو عن فهمها، من المهم أن نعرف مفهوم الامتثال والذي نعبر عنه بـ«التوافق أو التماثل وهو الميل لتغيير تصوراتنا أو آرائنا أو سلوكياتنا أو معتقداتنا بطرائق تتوافق مع معايير ومبادئ المجموعة السائدة أو السلطة الحاكمة.. قد يكون الناس عرضة للامتثال لمعايير المجموعة لأنهم يريدون الحصول على قبول من مجموعتهم. وغالبًا ما يختار الناس التوافق مع المجتمع بدلًا من السعي وراء رغباتهم الشخصية؛ فالأسهل غالبًا هو اتباع المسار الذي سلكه الآخرون بالفعل، بدلًا من صياغة مسار جديد أو خاص. يحدث هذا الميل للتوافق في مجموعات صغيرة و/ أو في المجتمع ككل، وقد ينتج عن تأثيرات ذهنية خفية أو غير واعية، أو بسبب ضغط اجتماعي مباشر وعلني». (بتصرف من ويكيبيديا، مصطلح Conformity) هذا الصراع بين الرغبات الشخصية المكبوتة والخشية من افتضاحها وبين التوافق مع النظام والمجتمع هو ما يحرّك كليريسي.
من معاني كلمة conformist «ملتزم»، وقد تُرجمت رواية «مورافيا» بهذا المعنى، لكني أميل إلى استعمال كلمة «ممتثل»، لأن الامتثال يعني الطاعة والاتباع نتيجة قهر خارجي أو دافع ذاتي أساسه المصلحة، أما الالتزام فينطوي على واجب قانوني أو أخلاقي أو أيديولوجي نابع من اقتناع وإيمان حقيقي يدفع صاحبه للتمسك بما يؤمن به مهما كانت العواقب، وهذا ما لم يتوفر تمامًا في شخصية كليريسي الذي يدرك عالم الحقيقة، خارج الكهف، ويبدو أن المصلحة والدوافع النفسية الجنسية هي التي تحركه، ولذلك يتردد في تنفيذ مهمته ثم ينقلب على الفاشية في الأخير.
التفسير الحقيقي لشخصية كليريسي نجده في علم النفس. شعوره بالذنب نتيجة اعتقاده أنه قتل «لينو» والخوف من معرفة الناس أن لديه ميولًا مثلية. كان كليريسي قد تعرض لحادثة تحرش وهو فتى من قِبَل سائق مثلي يُدعى لينو. هذه الحادثة تشوشه، إذ لم تكن هويته الجنسية قد اتضحت بعد في تلك المرحلة من العمر. يقول ستورارو -مصور الفيلم- في مقابلة مع «جون بايلي» و«ستيفن بيزيلو»: «عندما تكون يافعًا وتتعرض لحادثة كهذه، ستحاول إخفاء ما أنت عليه، لأنك لست مستعدًا لمواجهته. وأفضل طريقة لإخفاء حقيقة أنك مختلف -جنسيًا- هي أن تصبح ممتثلًا، مثل أي شخص آخر قدر الإمكان».
وفقًا لسورارو، «يريد كليريسي أن يكون مثل أي شخص آخر، ولهذا السبب يدير رأسه دائمًا للنظر إلى النساء الأخريات. هذه هي الطريقة الأكثر شيوعًا لتكون رجلاً، فإذا أخذت هذا المنطق إلى أبعد من ذلك، فما هي أفضل طريقة لتكون ممتثلًا في إيطاليا في الثلاثينيات؟ أن تكون فاشيًا. وإذا أردت أن تختبئ أكثر، ستحاول الإبلاغ عن مناهضي الفاشية. يريد كليريسي العثور على الزاوية الأكثر ظلمة للاختباء فيها. إحدى اللحظات الرئيسة في الفيلم هي زيارة كليريسي لعائلة خطيبته جوليا. أخبرته والدتها أنها تلقت رسالة من مجهول. اعتقد كليريسي أنها اكتشفت من هو حقًا، فيشحب وجهه، لكن بعد معرفة مضمون الرسالة -عن والده المختل في المستشفى- يقوم كليريسي بإيماءة تعبر عن راحته وتكشف عن شخصيته». في هذا الربط تلميح إلى أن كل فاشي يعاني من اضطراب الهوية الجنسية.
تعبيرًا عن رغبته في أن يكون عاديًا، يقول كليريسي للكاهن في حجرة الاعتراف: «أريد أن أبني حياة عادية. سيكون زواجًا برجوازيًا سخيفًا، مليئًا بالطموحات السخيفة، وستكون (الزوجة) سريري ومطبخي». ينهاه الكاهن عن مثل هذه الألفاظ، ثم ندرك سبب موقفه هذا من خلال وصفه للزواج بالخطيئة: «أريد أن أعترف اليوم بالخطيئة التي سأرتكبها غدًا. إنها خطيئة تعوض عن خطيئة أخرى. إنه الثمن الذي يجب أن أدفعه للمجتمع». يسأله الكاهن، مستغربًا: «هل تنتمي لطائفة جديدة؟» يجيب: «لا، أنا أنتمي لفئة تناهض جميع الطوائف» (يقصد الفاشية). سبب آخر لموقف مارسيلو السلبي من الزواج يبدو معقولًا في ميله الجنسي المزدوج للنساء والرجال، وقد تجسد هذا الميل بصريًا من خلال مشية كليريسي ونظراته.
نجد وصفًا لماهية الحياة العادية بالنسبة إلى كليريسي في حواره مع إيتالو. يقول إيتالو: «الرجل العادي، بالنسبة لي، هو الذي يدير رأسه ليتأمل مؤخرة امرأة جميلة. الرجل العادي يسعده أن يجد أناساً يشبهونه. لهذا السبب يحب الشواطئ المزدحمة وكرة القدم والحانة في وسط المدينة». يستكمل كليريسي مواصفات الإنسان العادي بقوله: «أن يكون فاشيًا حقيقيًا».
الفاشية والكبت الجنسي
يصور المشهد ما قبل الأخير ليلة سقوط الفاشية. في تلك الأثناء يتجول كليريسي في الكولوسيوم برفقة إيتالو. يلتقي هناك مصادفة بالسائق لينو، وقد صار كبيرًا في السن. كان لينو يحاول إغواء شاب وسيم. حاول هذا السائق -عندما كان شابًا- إغواء الطفل كليريسي، وقد انتهى لقاؤهما الأول الغامض إلى حادثة اعتقد بعدها كليريسي بأنه قد قتله. ثمة رؤية نفسية يلمح برتولوتشي من خلالها إلى أن تلك الحادثة هي المؤسسة لشخصية كليريسي: «الطفل أبو الرجل».
في تلك اللحظة يعي كليريسي حقيقته التي كان يجهلها عن نفسه. تنتابه حالة من الذعر فيصرخ في لينو تنفيسًا عن شعوره بالذنب طوال سنوات. يتهمه أمام حشد من الثائرين بأنه فاشي وبأنه هو من اغتال البروفيسور كوادري. وتعبيرًا عن حالة الامتثال للسلطة الجديدة، يشير إلى رفيقه الأعمى إيتالو ويتهمه بالفاشية أيضًا. يفر لينو بينما يجرف الحشدُ إيتالو. وفي اللقطة الأخيرة تمر الكاميرا على جسد المراهق العاري بينما ينظر كليريسي إلى الكاميرا من وراء قضبان، ما يوحي بأنهما قد انتهيا من ممارسة الجنس، لكنه لم يتحرر تمامًا أو أنه لا يزال حبيس سجن من نوع آخر. في هذه اللحظة يفهم كليريسي حقًا من هو ولماذا كان فاشيًا. وبهذه النظرة الخاتمة يربط برتولوتشي بين الفاشية والرغبة الجنسية المكبوتة. يوحي مورافيا أيضًا بوجود علاقة بين الاغتصاب الجنسي والفاشية، كما عبَّر برتولوتشي في مقابلته مع جيفريز.
الربط بين الكبت الجنسي والفاشية، أو الجنس والخضوع، ماثل أيضًا في علاقة «آنا» -زوجة كوادري- بمارسيلو. آنا أيضًا مثل مارسيلو، تميل للرجال والنساء. ويبدو أن رغبتها الجسدية مقدمة على اختلافها في الفكر مع مارسيلو. تعرف آنا أنه جاسوس وتتفهم دوافعه وتصفه بأنه «دودة» و«مقرف»، وفي اللحظة عينها تطلبه للجنس. تدرك المهمة التي كُلِّف بها فتطلب منه ألا يؤذيهما، لكنها لا تفكر في الحذر منه والهروب مع زوجها البروفيسور كوادري. هما على هذا النحو مختلفان فكريًا، لكنهما متحدان جنسيًا، وفي هذا الربط بين الفاشية والجنس، والفكر والفعل، انتصار للفاشية على الفكر الحر، مثلما انتصرت من قبل في تحويل طالب الفلسفة إلى عميل، ثم في قتل الرأي الحر، والفلسفة ممثلة في البروفيسور كوادري الذي يصف كليريسي بأنه كان من أفضل تلاميذه، وفي هذه الشهادة إشارة إلى الانحدار الذي بلغ في زمن موسيليني.
في مقابلته مع جيفريز، قال برتولوتشي بأنه أزال من رواية مورافيا جميع التفسيرات والدوافع والتلميحات لحياة كليريسي قبل اللحظة الأخيرة التي يرى فيها لينو، والهدف من هذه التغييرات، من الناحية النفسية البحتة -كما عبَّر- هو إبعاد قصة كليريسي من نموذج الحالة الفرويدي. وثمة تغيير آخر أجراه برتولوتشي: «تُروى رواية ألبرتو مورافيا من وجهة نظر السارد العليم. وقد اختار برتولوتشي سرد القصة من وجهة نظر بطل الرواية، متعمدًا أن تكون ذكرياته ومشاعره مضللة وبأسلوب تيار الوعي غير الخطي. في البداية، حُرِّر الفيلم بطريقة خطية من قِبَل المحرر المعتاد «روبرتو بيربيناني»، ولاحقًا حاول «فرانكو أركالي» تحرير بعض أحداث الفيلم بالتناوب بين الماضي والحاضر، وتغيير بنية الفيلم. أقنعت تلك المحاولة برتولوتشي لدرجة أنه قرر إعادة تجميع الفيلم من قِبل فرانكو أركالي، الذي سيصبح منذ ذلك الحين محرره اللامع الذي لا يستغني عنه».
اتسم موقف غودار من فيلم «الممتثل» بحدية درامية، وقد كان بإمكانه التعبير عما أزعجه وما أعجبه في الفيلم. برتولوتشي نفسه -في مقابلته مع ستيوارت جيفريز، بعد عقود- عبّر عن نظرة مختلفة للفيلم، لا ترضى عنه كل الرضى، وهذا حال كل مبدع تتطور رؤيته وأدواته مع مرور الزمن. وعلى الرغم من موقف غودار فإن جيلًا جديدًا من صانعي الأفلام -«فرانسيس كوبولا»، و«مارتن سكورسيزي»، و«ستيفن سبيلبرغ»- نظروا إلى الفيلم بوصفه وحيًا وإلهامًا، مما جعل برتولوتشي يشعر بالفخر. ما لفت نظر هؤلاء المخرجين هو تقنية السرد بأسلوب الاسترجاع المعقد (فلاشباك) والتصوير الفوتوغرافي الرمزي بالألوان الذي قام به مدير التصوير الإيطالي فيتوريو ستورارو الذي «استوحى فلسفته في التصوير من نظرية الألوان الخاصة بيوهان فولفجانج فون جوته التي تركز جزئيًا على التأثيرات النفسية التي تعكسها الألوان والطريقة التي تؤثر بها على تصوراتنا للمواقف المختلفة» (موقع ناونس). وسنجد هذا التأثير ماثلًا في أفلام لاحقة مثل فيلم كوبولا Apocalypse Now «القيامة الآن»، الذي صوره ستورارو في الفلبين.
تقنية السرد في فيلم «الجندي الصغير» و«الممتثل» تقوم على الاسترجاع (فلاشباك) من اللحظة الراهنة. يتذكر كليريسي وبرونو كل الأحداث التي أوصلتهما إلى هذه النقطة. لكن الفارق أن فيلم «الممتثل» يتضمن استرجاعًا متعددًا أو متداخلًا (فلاشباك داخل فلاشباك)، بينما يتَّبع فيلم «الجندي الصغير» الأسلوب الخطي بعد مشهد الافتتاحية مباشرة.
الفكر والفعل
يتضمن «الممتثل» إدانة للفلسفة أو للنخبة الذين تخلوا عن دورهم في النضال من داخل إيطاليا. تمثلت الإدانة في لجوء أستاذ الفلسفة إلى فرنسا. في مشهد لقاء كليريسي والأستاذ كوادري، في مكتبه، يعبر الأستاذ عن خيبة أمله في تلميذه السابق وكيف أنه كان مؤمنًا به وببقية طلاب الفلسفة، فيرد كليريسي: «إذا كان ما تقوله صحيحًا لَمَا كنتَ غادرتَ روما». ينتهي المشهد وهما يواجهان بعضهما دون رد الأستاذ، مع ما يحمله هذا الصمت من اعتراف. مقتل الأستاذ لاحقًا يُظهر أن الهروب خارج أسوار الفاشية غير مجدٍ أمام فاشية يمكنها تعقب المعارضين حتى وهم في الخارج، كما يُظهر أن المصير نفسه كان سيلاقيه الأستاذ وهو في روما، لكن النتيجة كانت ستختلف؛ فلو أن الأستاذ استمر في دوره التنويري من الداخل، كان وجوده سيُثمر في التأثير الإيجابي على جيل جديد من الطلاب، وربما ما كان لمارسيلو أن يُغير موضوع أطروحته، بعد رحيل أستاذه، من «أسطورة كهف أفلاطون» إلى موضوع آخر، وما كان لمارسيلو أن يصل به الحال إلى هذا المستوى من العمالة. ثمة إدانة للأب هنا -ممثلًا في أستاذ الفلسفة- تنتهي بقتل الابن لأبيه.
صُوِّر مشهد الحوار حول «أسطورة الكهف» بالأبيض والأسود وبتقنية الضوء والظل ليعكس هذا الجو البصري حالة الكهف كما هي في أسطورة أفلاطون. تلك حالة كان الأستاذ يستحضرها بغلق النوافذ، عندما كان يُدرّس طلابه، لكي لا تبقى سوى حقيقة واحدة هي صوت الأستاذ الذي سيعلق في أذهان طلابه. يتفق الأستاذ والتلميذ (الذي كان) في دلالات الأسطورة، لكن في هذا المشهد يقوم كليريسي بدور الأستاذ؛ يغلق النافذة ويختفي في الظل ليبقى صوته، بينما تُظهر النافذة الأخرى صورة كوادري. يقول لكوادري:
«تخيل زنزانة على شكل كهف، وفي داخل الكهف رجال مقيدون يعيشون منذ الطفولة مواجهين لجدار الكهف، وثمة نار خلفهم، وما بين النار والسجناء جدار منخفض، مثل مسرح الدمى الصغير حيث يتحكم محرك الدمى بدُماه. تخيل الآن رجالًا آخرين يمرون خلف ذلك الجدار الصغير وهم يحملون تماثيل مصنوعة من الخشب والحجارة، والتماثيل أعلى من ذلك الجدار».
هنا يرفع كليريسي يده للأعلى للتوضيح بما يشبه تحية هتلر. يخفض كليريسي يده وكأنه تنبه إلى هذا المعنى. ثمة صورة مماثلة في فيلم «الجندي الصغير» حين يتخفى برونو خلف صورة لهتلر وبيده الأخرى يحمل مسدسًا، لتبدو الصورة مع المسدس وكأن هتلر هو من يصوب المسدس نحو باليفودا. يوحد -أو يُماهي- غودار في هذه اللقطة بين برونو وهتلر -وكذلك يفعل برتولوتشي مع مارسيلو- ليقولا إنهما سواء أو إن برونو ومارسيلو يسيران على طريق هتلر.
يتفق مارسيلو مع أستاذه في أن «سجناء أفلاطون المقيدين يشبهوننا»، فيسأله الأستاذ: «وكيف يبدو (السجناء)؟». يعيد مارسيلو السؤال نفسه، فيقول له الأستاذ: «أنت القادم من إيطاليا تعرف أفضل بحكم تجربتك». وبلقطة تحاكي أسطورة الكهف، يستدير مارسيلو ليرى ظله على الجدار، ليشبه بهذه الوضعية أحد السجناء. يجيب: «لا يرون سوى الظلال التي تُحدثها النار على جدار الكهف الذي يواجههم». يرد الأستاذ: «الظلال. انعكاس الأشياء. مثلما يحدث معكم في إيطاليا». يسأله مارسيلو: «لنقُل إن هؤلاء المساجين قادرون على الكلام، ألا يمكنهم أن يخلطوا بين الظلال والحقيقة، مُطْلقين على الظلال التي يرونها حقيقةً لا رؤى أو خيالات؟» فيجيب الأستاذ: «نعم، قد يخطئون بشأن الحقيقة. ظلال الحقيقة».
يدافع الأستاذ عن نفسه قائلًا: «عند النقطة التي وصلنا إليها لم يكن لدينا خيار آخر سوى الهجرة. أردنا لكل الناس أن يشعروا بازدرائنا وبتمردنا -المعارضين المنفيين- وبالمعنى التاريخي لكفاحنا». يرد كليريسي: «كلمات رائعة، لكنك غادرت وأنا أصبحت فاشيًا»، فيقول كوادري: «لكن الفاشي الحقيقي لا يتحدث مثلما تتحدث!» هنا يعيد كوادري فتح النافذة التي أغلقها كليريسي، فيمحي الضوءُ الصورة الظلية لكليريسي. في تلك اللحظة يصبح رجلاً بلا هوية، كما عبَّر مصور الفيلم العبقري ستورارو. يكشف هذا الكادر، المصاحب لتعليق كوادري الأخير، أن كليريسي لم يكن ملتزمًا حقًا بالفاشية، بل كان ممتثلًا لدوافع نفسية جنسية.
النقاش الفلسفي مع أستاذه وحبه لآنا يجعلانه يتردد في تنفيذ عملية الاغتيال. يخبر آنا أن له أصدقاء في البرازيل، فإن غادَرَتْ معه سيترك كل شيء ويبدأ معها حياة جديدة. تَحضر البرازيل هنا كمحطة لبدء حياة جديدة، تمامًا مثلما يخطط برونو في فيلم «الجندي الصغير» لبدء حياة جديدة مع «فيرونيكا» في البرازيل. كِلا الحُلمين يفشلان وينتهيان إلى اغتيال المعارضيَن في الفيلمين، والفارق في الدلالات النهائية: فيلم برتولوتشي يمثل إدانة واضحة للفاشية، وفي فيلم غودار نقد للثورة بوضعها مرادفًا للنقيض الاستعماري: المخابرات الفرنسية تلاحق برونو وتدفعه لاغتيال باليفودا وتختطف فيرونيكا للسبب نفسه، والمقاومة الجزائرية تختطف برونو وتعذبه.
ظلال تبحث عن ظلال
في رواية مورافيا، لم يكن كليريسي شاهدًا على جريمة القتل. كان في روما في ذلك الوقت. وقد عدَّل برتولوتشي النص ليكون كليريسي متفرجًا على جريمة القتل في إحدى غابات فرنسا. يحدث هذا التغيير عند علم كليريسي بخروج آنا مع كوادري في السيارة متجهين إلى منزلهما الريفي. والهدف من لحاق كليريسي بسيارة كوادري هو منع آنا من مشاهدة عملية الاغتيال، لكن هذا لا يحدث ليتبين الهدف الحقيقي -المضمر- وهو مشاهدة كليريسي لعملية الاغتيال البشعة ثم استنجاد آنا به دون أن تتحرك مشاعره لتُقتل بالطريقة البشعة نفسها.
طريقة قتل كوادري بالطعن من قِبَل مجموعة الاغتيال تذكرنا بمقتل «يوليوس قيصر». ومع أن كليريسي لم يتدخل لمنع ما يحدث، فإن «مانجانيلو» يصفه بأنه جبان، لأنه أبدى ضعفًا تجاه آنا. والغاية من مشاهدة هذه البشاعة بدم بارد هو بيان قبح الفاشية. وقد جسَّد برتولوتشي هذه البرودة باختيار الغابة والشتاء القارس لتظهر بوضوح حُمرة الدم على بياض الجليد. تكشف لنا الصورة الظلية لمجموعة الاغتيال عن سجناء خرجوا من كهفهم المظلم لا ليعرفوا الحقيقة ولكن ليقتلوا الضوء.
قام برتولوتشي بتغيير آخر، أكثر ذكاء، وأكثر خيانة لقصة مورافيا. تنتهي رواية مورافيا بمغزى أخلاقي: «بعد سقوط موسوليني، يهرب الممتثل من روما. تطلق طائرة الرصاص عليه وعائلته. كأنها يد الله هي التي عاقبت المذنب» أما نهاية برتولوتشي فكانت واقعية، تعكس نفسية الممتثل ومشاعره الباردة وعقلية الفاشية التي تُجسَّد بصريًا في الأسطح والمباني الرخامية والفضاءات الفارغة.
الفاشية عمياء كما تظهر من خلال المذيع الأعمى إيتالو الذي يروج لها بقراءة منشورات مكتوبة بلغة بريل. هناك مظهر آخر للعمى الفاشي يتجسد في حلم كليريسي وهو في السيارة. يخبر مانجانيلو عن حلم رأى فيه نفسه كفيفًا وكان كوادري هو الجرّاح الذي أعاد إليه بصره. هذه الإشارة كانت كفيلة لدفعه للتراجع، لكنه يمضي في طريقه لقتل الرجل الذي أخرجه من الكهف المظلم إلى النور وعالم الحقيقة. هناك كادر تتداخل فيه صورة كليريسي مع صورة إيتالو. يقف كليريسي خلف حاجز زجاجي بينما تنعكس صورة إيتالو على ذلك الحاجز لتمتزج الصورتان معًا، بما يعني أن كليريسي أيضًا أعمى.
كل الفاشيات عمياء، بالمعنى الحرفي والمجازي، وإذا كان العمى هنا متخيلًا سرديًا فهناك أمثلة لعمى واقعي رَوَتْه «آذر نفيسي» في كتابها «أن تقرأ لوليتا في طهران». كان رقيب الأفلام الرئيس في إيران حتى عام 1994 كفيفًا، وكان أحد المساعدين يجلس إلى جواره ليشرح له المشهد وكل ما يجري على خشبة المسرح، فيعطي الرقيب أوامره بعد ذلك بحذف الأجزاء غير المرغوب فيها.
يصور فيلم «الجندي الصغير» لغودار، ثنائية الفكر والفعل، وكذلك يفعل برتولوتشي في فيلمه «الممتثل» مع تغيير في الأولوية. مارسيلو هو امتداد لشخصية برونو، وبالتالي انتصار الجندي أو الفاشية على الفيلسوف أو الفلسفة، لكن الرؤية النهائية من حيث تأثيرها على المتلقي تنتصر للفكر والفن اللذين يمكنهما إدانة الفاشية وتعريتها كما فعل برتولوتشي في «الممتثل».
ثنائية الفكر والفعل في الفيلمين هي صورة عن عالَمَي أفلاطون: عالم الأشياء وعالم الأفكار، وأسطورة الكهف هي قصة رمزية: الكهف يمثل العالم المعقول، والسجناء هم البشر، «والعالم الخارجي هو عالم الأفكار حيث جوهر الأشياء والمعرفة الحقيقية. وخروج السجين إلى العالم الخارجي وشعوره بعدم الأمان والخوف يشير إلى ما ينطوي عليه التخلي عن المعتقدات أو العقائد المتجذرة».
أسطورة الكهف لأفلاطون هي أيضًا أسطورة السينما واستعارة مثالية لها، بحسب تعبير ستورارو. في حواره مع «جون بايلي» يقول: «الأشكال الموجودة في الكهف شبيهة بالجماهير اليوم، والنار التي خلفها هي جهاز عرض الفيلم، والأشخاص الذين يحملون التماثيل ويمرون أمام النار ويخلقون الظلال على الحائط مثل الفيلم نفسه. يستخدم كوادري هذه الأسطورة ليخبر كليريسي أن شعب إيطاليا لا يرى الواقع، وإنما يرى ظلال الواقع فقط» وقد استعمل ستورارو وبرتولوتشي الإضاءة والتكوين والحجب للتأكيد على رغبة الشخصية في البقاء مخفية. والفيلم بهذه التقنية يدور حول «حياة تعيش في الظل، عن الظلال التي تبحث عن ظلال أخرى» بحسب تعبير عالم السينما «روبرت فيليب كولكر».
وفقًا لأمثولة الكهف لأفلاطون، يتمكن أحد السجناء من النظر وراءه ويتقدم نحو المَخرج. تنتابه الشكوك وعدم الراحة من الضوء، ورغم أنه قادر على العودة إلى الظل في آخر الكهف، فإنه يتكيف مع الوضع الجديد، ثم يبدأ في رؤية الأشياء الحقيقية التي تشكل الواقع ويرغب في مشاركة هذه التجربة مع رفاقه الذين يواجهون ما يقوله بالسخرية. ذلك السجين هو أستاذ الفلسفة الذي فر من كهف الفاشية، ليتحرر ذاتيًا بما يشبه ثورة شخصية، خلافًا لما دعا إليه أفلاطون من أن «الفرد الذي يصل إلى الحقيقة عليه التزام أخلاقي بإخراج بقية الناس من الجهل ونشر معرفته الجديدة».
وهذا ما يأخذه كليريسي على أستاذه الذي عرف عالم الحقيقة بالفلسفة وبخروجه من كهف الفاشية، كما يختبره كليريسي بالطريقة نفسها قبل أن يحيد عن هذا الطريق. وبخروجه من إيطاليا -أو من كهف الفاشية- في مهمة اغتيال أستاذه، وبتأثير من العالم الجديد الحقيقي، يكاد مارسيلو يتراجع عن تنفيذ المهمة إلى درجة أنه يعرض على آنا الهروب إلى البرازيل لبدء حياة جديدة هناك (يعرض برونو الخطة نفسها على فيرونيكا في فيلم «الجندي الصغير» لغودار).
الفارق بين الأستاذ وتلميذه هو في الموقف من معرفة الحقيقة والذي يتمظهر في التغيير النوعي الذي يحدث للفرد بمجرد وصوله إلى الحقيقة، لأنه بمجرد معرفة الحقيقة، لا يكون هناك عودة إلى الوراء. هذا ما يحدث مع الأستاذ، أما التلميذ فيعود إلى كهفه لنراه في الجزء الأخير من الفيلم مع طفله وزوجته جوليا لائذًا بالدِّين أو متمسحًا به، ومنقلبًا على ماضيه الفاشي بإدانة رفاقه، ومتصالحًا مع ميله الجنسي المزدوج. بهذه الخاتمة تُحَل عقدة كليريسي ويفهم ذاته في رحلة نفسية فلسفية للبحث عن الهوية سبق لبرونو أن عانى منها في فيلم «الجندي الصغير».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش