دراكولا كمَسخرة
نما الاهتمام والهوس بشخصية مصاص الدماء الأشهر الكونت دراكولا في الثقافة الشعبية، غالبًا، بسبب تأثير أفلام الرعب التجارية التي استندت إلى شخصيته، إلا أن البذرة الأولى لهذه الشخصية، في جانبها الأدبي المتخيل، والاختراعَ الآصَلَ كان من خلال عمل الروائي الأيرلندي برام ستوكر (1847-1912). لم ينل عمل من أعمال ستوكر، حظوةً وشهرةً واستلهامًا سينمائيًّا، كما نالته روايته «دراكولا» المنشورة في العام 1897م. وفي العام 2023م يعود الكونت دراكولا مرةً أخرى من خلال فيلم المخرج التشلياني بابلو لارين كمسخرة. يقول ماركس، كما هو معلوم، في جملته الشهيرة: «إن التاريخ يعيد نفسه مرتين، في الأولى كمأساة وفي المرة الثانية كمسخرة». ولعلي، كما هو واضح، قد تلاعبت في الترجمة بطريقة لا أعرف مدى جوازها، حيث إن المفردة الأخيرة تُترجم، في الأغلب، إما إلى «كوميديا» أو «مهزلة»، إلا أنني فضّلت ترجمتها لمفردة أقرب للعامية منها للفصحى: مسخرة. ومَردُّ ذلك إلى أن هذه المفردة تحديدًا أقرب، في نظري، إلى المعنى المراد في فيلمنا، فبين الكوميديا أو المهزلة وبين المسخرة بون واضح، إن المرء إذا ما قرر الهزل في أمر جاد فهو يضحك بالفعل أو يهجو إلا أن ثمة مرارةً تنضح في قعر هذا، غير أنه لو قرر أن يُمسخر الأمر فهو يضحك ويهجو وحسب، بلا مرارة. قد يكون هذا هروبًا، صحيح، لكنه قد يكون، كذلك، إمعانًا في السخرية. وبابلو لارين مخرج العمل يُعيد الاثنين ضمن فيلمه، التاريخ ودراكولا، معًا، كمسخرة، ففي البداية يُمسخر التاريخ بتلاعبه فيه، دون أي احترام لمساراته السالفة، وفي الثانية يُمسخر الديكتاتور بوضعه في رمزه الحقيقي كمصّاص دماء: الكونت.
إذا ما تأملنا في الأمر، فإننا سنرى أكثر من «إعادة». لقد قام برام ستوكر، في الأول، بإعادة شخصية الحاكم الروماني فلاد الثالث دراكولا، الشخصية التاريخية، لرسم شخصية بطل روايته. وفي الثاني، يقوم بابلو لارين بإعادة أوغستو بينوشيه -في الذكرى الخمسين لتسنمه السلطة في تشيلي- للحياة، لا بوصفه حاكمًا عسكريًّا، ولا بوصفه إنسانًا مر في التاريخ السياسي، بل بوصفه مصاص دماء. إن التاريخ إذا لم يعد من تلقاء نفسه فهو يُستعاد بأشكال شتى، ولعله لا يكون، في قرارته، إلا عملية اجترار باختلاف أنواع المِعَد.
عن الرمز والمرموز
من الأساطير الشعبية حول شخصية دراكولا1، والتي ساهمت السينما التجارية في انتشارها، أنه لا يظهر ولا يعيش في ضوء الشمس (ومن رمزية الشمس أنها الوعي)، ولا انعكاسَ له في المرايا (والمرآة من رمزياتها أنها الآخَرُ) ولا يُقتل إلا بدقِّ وَتَد في قلبه (وللوتد رمزية الاتحاد والتعاون والقبضة القوية) وأنه يكره الثوم ويبتعد عن الأماكن التي يتواجد فيها (والثوم دواء الفقراء وبديل البُهار لديهم) ودراكولا لا يخرج إلا في الليل (كاللصوص والمومسات) ويعيش في قلعة منيعة ونائية (مثل ديكتاتور).. ماذا؟ ديكتاتور؟ لعل الحديث ليس إلا عن هذا، أصلًا. لكن من هو الديكتاتور المعنيُّ هنا؟ إنه أوغستو بينوشيه. ومن هو بينوشيه في فيلم «الكونت»؟ إنه جمع الديكتاتوريين!
لأوغستو بينوشيه مكانة مروّعة في تاريخ تشيلي منذ اللحظة الذي استولى فيها على السلطة بانقلاب عسكري في العام 1973م على الرئيس الديمقراطي سلفادور آليندي (1908-1973) والذي كان يؤمن بالقيم الاشتراكية ويرى بإمكانية قيام نظام سياسي اشتراكي حقيقي، وهو ما مثّل حلمًا بالحرية لدى جموع غفيرة من شعب تشيلي. حكم آليندي ثلاث سنوات بالضبط، 1970م يصل إلى المنصب الرئاسي وفي 1973م يقوم بينوشيه بانقلاب عسكري عليه -بتطويب أميركي- ثلاث سنوات فقط هي ما تزيد من كارثية هذه اللحظة التاريخية. لقد تم خنق الحلم في مهده. وهذا ما يجعل من قيمة سلفادور وبينوشيه في الثقافة التشيلية أكثر عمقًا وتراجيديا. يظهر هذا في هوَس المخرج لارين باستعادة هذه الموضوعة والمداورة حول شخصية بينوشيه في أكثر من عمل من أعماله مثل فيلم «نو»، كما يظهر في أكثر من عمل من أعمال روبرتو بولانيو -القطب الفني للكتابة التشليانية- مثل «تميمة» و«ليل تشيلي».
تجريب، تغريب، ولون وردي
إذن، فقد تُنُووِل بينوشيه كثيرًا في الأدب والفن والسينما التشليانية، إلا أن ما يجعل من تناوله داخل فيلم «الكونت» مختلفًا ومميزًا هو القرار الكتابي في رسم شخصيته. لم يقم لارين وجييرمو كالديرون (كاتب الفيلم مع المخرج) بأكثر من أخذ شخصية بينوشيه وتسطيحها إلى الحد الأعلى، مثل مربع تام وأملس اللهم بنتوء واحد فقط، لتبريزه لا أكثر. إن بينوشيه يظهر في الفيلم بوصفه مصاص دماء وحسب، بلا صراع داخلي، بلا قضية كبيرة، بلا حسرات على الماضي. إنها قضية واحدة فقط: «الكونت بينوشيه» مل من الخلود ويريد الموت فيقرر ألّا يشرب دمًا بعدُ على أمل أن يفنى كأي إنسان. وحسرة واحدة: يؤلمه أن يُنعت باللص وأهون عليه من هذا أن يوصف بالقاتل. لقد جُرّد الجنرال الكبير من كل هيبته المخيفة، أو تعقيداته الوجودية بوصفه ديكتاتورًا، أو حتى «اجتراراته» التاريخية كما ينبغي عليه. لقد تحول، في إطار هذا الفيلم، إلى مجرد مصاص دماء عاطل عن العمل.
مما يميز هذا العمل ويعطيه أصالة عميقةً هو قراراته الإخراجية والسردية ذات النفس الغرائبي في أحيان والتجريب الموفّق. سأتناول منها الأهم، وأولها خيار يظهر منذ اللحظة الأولى في الفيلم: صوت الراوي. إنه صوت أنثوي يظهر لمسامعنا بلغة إنجليزية ذات لهجة بريطانية لا تخطئها الأذن. ومكمن الغرابة أن كامل الفيلم -تقريبًا- يدور في جو تشيلياني، أي باللغة الإسبانية. فما الذي يجعل من صوت إنجليزي خالص يروي قصة تشليانية؟ خصوصًا وأن الراوي لا يكتفي بسرد الأحداث أو المساعدة في دفع السرد الفيلمي وحسب، بل هو لا يني عن تعليقاته الشخصية مرة ومرة أخرى، ناقدًا أو ساخرًا أو مفكرًا في أذن المشاهد. وهو -لئلا نحرق الفيلم- واحد من أذكى الخيارات الإخراجية. وتفصيلة ذكائه، تحديدًا، في ارتباطه بقرارات إخراجية أخرى، ففي اللحظة التي نكتشف فيها شخصية صاحبة صوت الراوي ينقشع الأبيض-والأسود، الذي هو بدوره خيار إخراجي ثان، يريد به الفيلم تحييد كل واقعية، وكأنه يقول: إنني فيلم، انتبه! وينعطف على هذين القرارين القرار الآصل سرديًّا حيث التاريخ البديل، بل السلالة البديلة لبطل الفيلم: إن بينوشيه -بحسب لارين وكالديرون- سليلٌ للثورة الفرنسية، وعاشقٌ لماري أنطوانيت، آخر ملكات فرنسا المعدمة بواسطة المقصلة، وهو الهارب من فرنسا الثوريين إلى أن حط بين التشليانيين، حتى وصوله إلى سُدة الحكم. لا نعرف له أبًا، غير أننا سنعرف أمه في نهاية الفيلم. وبعد أن ينكشف لنا هذا الخيط، المترابط بخيوط إخراجية أخرى، سنعرف أن الديكتاتوريين جميعًا عائلة كبيرة من دم واحد، وكلهم مصاصو دماء.
أُشيع في الحملة التسويقية لفيلم «باربي» أن اللون الوردي قد نفد تمامًا من العالم، وبعض الناس خففوا من السخرية وقالوا: إنه نقص حادّ، والظاهر أنهم محقون وذلك بدليل أن بابلو لارين قد وجد بعضًا منه واستعمله في الفيلم، كخيط وردي طويل ملفوف حول كامل بكرة الفيلم ذي الأبيض-والأسود إلا قليلًا. يسطع اللون الوردي منذ مقدمة الفيلم، في عنوانه وأسماء مشتغليه، بل وحتى في الملصق الرسمي للفيلم، مرتبطًا ببنط الخط الإنجيلي -إن صحت التسمية- ربطًا لأمرين في ضفيرة واحدة: الأنثى والكنيسة.
في الفيلم، تُقرر الكنيسة إرسال واحدة من راهباتها الأشد ذكاءً وجمالًا وتديُّنًا إلى الشرير الكبير، لمهمة تطهيره من الشيطان، ويكون هذا تحت غطاء أنها محاسِبة مالية ماهرة ستعمل على جرد إرث الكونت لتقسيمه بين أبنائه، لكنها عوضًا عن ذلك تضرب على وتر الحياة لدى بينوشيه الذي يلتهب توقًا للحياة مرة أخرى، بباعث من جمال الراهبة، ويعود إلى مص الدماء. في هذا الملخص المبتور تحدث كثيرٌ من التفاصيل، إلا أن الفيلم بكامل سرديته يدور بين خطوط وردية، أو أنثوية، تحاكم دور المرأة في صناعة الديكتاتور، من جهة، وتنقد مساهمة الكنيسة في ذلك. أو، على طرف نقيض، يقول بأن باربي هي الأصل وراء كل كين، وإذا ما فسد الأصل فسد الفرع بالضرورة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش
1. كما يعرف باسم «فلاد الثالث المُخوزق»، حكم «إمارة الأفلاق» والتي هي حدود رومانية شمال نهر الدانوب. ولقد اشتهر الرجل بلقب المُخوزق بسبب طريقة إعدامه لخصومه بواسطة «الخازوق». أما لقبه العائلي فهو دراكولا، والذي يعني: ابن التنين.