يتناول الفيلم الإسباني «الهاوية» أو El Hoyo -والذي تُرجم اسمه إلى الإنجليزية بـ«المنصة» أو The Platform- قصة سجن أفقي متعدد الأدوار. يُسجن في هذه الهاوية أو المنصة عددٌ كبير من السجناء، مقسمين على أدوار متعددة، ويقبع كل سجينين في دور، ويُدار السجن بنظام صارم غير مرئي، فلا يوجد سجّان أو تَوَاصُل بشري بين إدارة السجن والسجناء، وتنزل كل يوم مائدة طعام من فتحة في السقف تهبط عبر السجن الأفقي ليتناول السجناء نصيبهم من الطعام والشراب. إن حبكة الفيلم قائمة على الصراع على الموارد الأساسية بين السجناء، والتفاوت بينهم، بين من ينال كل شيء في الأدوار العليا، فيستمتع حتى بالكافيار والنبيذ، ومن يموت جوعًا في الأدوار السفلى، فلا يجد ما يأكل إلا رفيق زنزانته.
أخرج الإسباني غالدير أوروتيا الفيلم، وهو أولى تجاربه في إخراج الأفلام الطويلة، إذ سبق له إخراج فيلمين قصيرين هما: «913» و«منزل البحيرة» أو La Casa del Lago، وقام بدور البطولة في الفيلم الممثل الإسباني البارز إيفان ماساغي، وزوريون إجيليور، إضافة إلى الممثلة أنطونيا سان خوان، والفيلم من إنتاج شبكة نتفليكس في 2019م، ونال ورُشّح لعددٍ من الجوائز العالمية.
يقوم الفيلم على فكرة بسيطة ومحددة، فأحداث الفيلم تدور في سجن غريب، مصمَّم بشكل أفقي ومقسَّم إلى عدة أدوار، وفي كل دور يُسجَن شخصان، وفي كل يوم تنزل مائدة من سقف السجن، مليئة بكل ما لذ وطاب من الأطعمة والأشربة. تقف المائدة في كل دور دقيقتين، ويمكن للسجناء الأكل منها كما يشاؤون دون الاحتفاظ بالطعام أو الشراب بعد أن تهبط المائدة إلى الأدوار السفلى، فيستمتع السجناء بالأدوار العليا بالأطعمة والأشربة كما يشاؤون، يصابون بالتخمة، يأكلون ويلعبون بمحتويات المائدة على هواهم؛ تقوم فرضية السجن الأساسية على أن المائدة تكفي كل السجناء في حال أكل كل سجين حاجته، إلا أن الطمع والجشع واللامبالاة وانعدام التعاطف بين السجناء يؤدون إلى استهلاك كل الأطعمة والأشربة في الأدوار العليا، إذ لا يبقى في نهاية المطاف للسجناء في الأدوار السفلى إلا العظام وفتات الخبز وبقايا البقايا، حتى تصل المائدة فارغة إلى الأدوار في قاع السجن، في الهاوية، حيث يبدأ البشر بالهلوسة من الجوع، وينتهي بهم المطاف إلى أكل بعضهم بشكل همجي ودموي ومقزز.
إلا أن تفصيلة صغيرة وإضافة هامة على حبكة الفيلم تجعل القصة مليئة بالإثارة، إذ إن مواقع السجناء في السجن تتغير بانتظام شهريًا، فتتغير الأدوار بصورة عشوائية وعبثية، فمَن كان في الدور 15، وهذا معناه أنه سيأكل ما يطيب له من الطعام والشراب، قد يذهب الشهر القادم إلى الدور 177، وهذا معناه أنه سيقتات على فتات الخبز والعظام، ثم قد يعود إلى الدور 7، وهذا معناه أنه سيتلذذ بأكل الجمبري واللحوم، وبعدها ستحط به الرحال في الدور 250، ما يعني أنه سيموت من الجوع وسيتقاتل مع السجين المرافق له على مَن سيأكل منهم الآخر. هذا ما يتعلق بالفكرة الرئيسة للفيلم، إلا أن حبكة وأحداث الفيلم تذهب باتجاه فرضيات أخرى تتعلق بمعالجة هذه الوضعية وطرائق البشر للنجاة في الصراع من أجل البقاء.
يحاول الفيلم الإجابة على سؤال محدد: كيف يمكن للسجناء في الأدوار السفلى أن يتجنبوا المجاعة ويُقنعوا السجناء في الأدوار العليا بأن يستهلكوا ما يكفيهم من الطعام والشراب بحيث تكفي موارد السجن جميع السجناء؟
يفترض الفيلم أن الوعي وتغيير عقلية السجناء تجاه موارد السجن قد تكون الوسيلة الوحيدة لنجاة جميع السجناء، أن يقتنع السجناء أن موارد السجن تكفيهم جميعًا إذا اتفقوا على أخذ ما يكفيهم فقط، وهنا نعود للشعار الأثير لدى «كارل ماركس» والذي استُثمر بصورة كبيرة في الأنظمة الشيوعية: «من كل حسب قدرته إلى كل حسب حاجته»، فإذا أخذ كل سجين ما يحتاج، سيكون هناك من الموارد ما يكفيهم جميعًا، أما إذ قرر السجناء في الأدوار العليا الاستئثار بكل شيء، فلن يبقى للسجناء في قاع الهاوية إلا الجوع والمعاناة.
الفيلم من الأفلام الرمزية التي تتناول التوزيع غير العادل للثروة والطبقات الاجتماعية والصراع الطبقي والطمع الإنساني الذي يظهر في الفيلم في أبشع صوره التي تؤدي إلى حرمان الطبقات الدنيا من أبسط مقومات الحياة، حيث يتركهم الطمع الإنساني والتوزيع غير العادل للثروة في حالة من التوحش والجوع تجبرهم على أكل بعضهم بعضًا بصورة حرفية هذه المرة، وهذا توحش الصراع من أجل البقاء في المجتمعات الرأسمالية.
يتميز الفيلم بإمكانية قراءته عبر أكثر من نظرية في العدالة الاجتماعية، إذ يمكن قراءة الفيلم بصورة مباشرة من خلال الأدبيات الماركسية حول التفاوت الطبقي، واستئثار الطبقات العليا في المجتمع بكل شيء عبر سحق الطبقات الدنيا، وأن الخلاص للطبقات الدنيا في المجتمع يأتي من خلال الوعي والنضال الطبقي لتحقيق العدالة الاجتماعية في النهاية ووصول طبقة «البروليتاريا» إلى السلطة، إلا أن القراءة الأكثر إثارة في تقديري يمكن أن تأتي من نظرية العدالة لفيلسوف السياسة والأخلاق الأمريكي «جون رولز»، والذي قاد كتابه «نظرية العدالة» الحوارات السياسية والأخلاقية منذ سبعينيات القرن الماضي حتى اليوم.
يُعدُّ فيلم «المنصة» أو «الهاوية» تطبيقًا مباشرًا لمفهوم «حجاب الجهل» في فلسفة العدالة الاجتماعية لـ«رولز» في كتابه «العدالة كإنصاف»، ويقوم مفهوم حجاب الجهل على فرضية مفادها أنك ستولد مرة أخرى في المجتمع (إعادة توزيع الأدوار في الفيلم) مع جهلك التام بالطبقة أو العِرق أو الدين أو الجنس أو أي هوية أو وضع اجتماعي آخر، فإذا كنت تجهل الوضع الاجتماعي الذي ستولد به من جديد (الدور الذي ستُسجن به) فما الصورة التي تريدها للمجتمع؟ بالطبع لا تريد مجتمعًا قائمًا على التمييز العنصري على أساس العرق أو الجنس، ولا تريد أن تكون في مجتمع يميز على أساس الدين، ولا تريد أن تكون في مجتمع يسحق الفقراء (حيث لا يصل إلا فتات الطعام للأدوار السفلى) أو يتخلص من الأشخاص ذوي الإعاقة أو يقوم بالتجارب على المجانين. بهذه الفرضية يُحدّد «رولز» حقوقًا اجتماعية وسياسية على مستويات متعددة، فهناك الحقوق التي يجب أن يتساوى بها جميع الناس، وهناك الحق بالتمكين والذي يجب أن يكون لجميع الناس أيضًا، وهناك الحقوق التي يجب أن ينالها أفراد المجتمع الأقل حظًا أو الفقراء أو الذين ينتمون إلى الطبقات الاجتماعية الدنيا، وذلك لأنهم في أمسّ الحاجة إلى دعم إضافي يمكّنهم من الحياة الكريمة.
لم يُركّز الفيلم على الاختلافات الدينية أو العرقية أو الجنسية، ولكنه تناول بصورة بسيطة ورمزية مسألةَ التفاوت الطبقي والتوزيع العادل للثروة، فالبشر يقطنون سجنًا أوسع، سجن الحياة، والموارد تأتي من السماء، ويسوقها القدر، وأنت لا تعرف أين تبدأ حياتك وأين تنتهي، فتقلبات الحياة تعصف بالناس جميعًا في نهاية المطاف، ولا أحد منا اختار الطبقة التي ينتمي إليها، أو الموارد التي يستفيد منها، فلا أقل من الوعي بمعاناة الآخرين في الطبقات الدنيا من المجتمع، ومساعدتهم على تجاوز صعوبات العيش. بهذه الصورة وهذه المعالجة يحاول الفيلم تلخيص الوضع البشري اليوم في المجتمعات الرأسمالية، فما دام مصيرنا في هذه الحياة محددًا سلفًا، قبل ولادتنا، ولا سلطة لنا على أقدارنا، فلا أقل من التعاطف من الآخرين المسحوقين تحت عجلة الحياة القاسية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش