مقالات

فيدريكو فيلليني .. بين سحر الخيال وواقعية الأحلام

بنهاية الحرب العالمية الثانية؛ نهضت السينما الإيطالية من أنقاض الخراب الذي طال كل شيء في أوروبا، برؤية مختلفة أساسها تصوير ودراسة حياة مجتمع ما بعد الحرب، والتي ستتبلور على يد روبيرتو روسيليني الذي سيُدشِّن موجة الواقعية الجديدة بتصويره فيلم "روما مدينة مفتوحة (1945)"، عارضًا صورة الحياة كما هي، بكل قسوتها وعنفوانها، دون أي تجميل؛ بأبطال من الشارع، وكاميرا متحركة تمسك بالواقع، تلتقط الانفعالات الحقيقية، وترى الأشياء من الداخل والخارج في آنٍ معًا، في شكل سينمائي جديد وثوري، حتمي وصارم، كان أصحابه يرون أنه شكل التعبير الوحيد الذي يتناسب مع ما آلت إليه الأمور بسبب الحرب.
الواقعية الجديدة ستهيمن على إيطاليا لعقد ونصف من الزمن، وستكون هي الشكل الذي سيعرف به العالم سينما الإيطاليين، بعدد من الأفلام الأيقونية التي حتى اليوم تحتفظ بمكانتها في الذاكرة الإنسانية كأعمالٍ خالدة.
في خلفية هذه الحركة الكبيرة، كان فيدريكو فيلليني، وكانت ثورته الفنيّة تحضر في هدوء. قَدِم إلى روما يافعًا من مدينته الساحلية الصغيرة ريمني في العام 1938 ليعمل صحفيًا وراسم كاريكاتور. لم يدرس الإعلام، ولم يتخرج من الجامعة، شاهد الأفلام الأمريكيّة وأُعجب بهيئة الصحفيين: قبعاتهم المائلة ومعاطفهم الطويلة، وأسلوب حياتهم، فقرر أن يصبح مثلهم. وجد الوظيفة التي كان يتمناها، وكانت هي بوابته لصناعة السينما، وفيما يشبه الصدفة أرسله مديره ليجري مقابلة مع الممثل الصاعد وقتها أوسفالدو فالينتي، ليدخل "مدينة السينما" للمرّة الأولى، وينبهر بما شاهد من طريقة سير العمل.
إننا أمام شخصيّة فريدة من نوعها، ليس لها من مثيل في تاريخ السينما بأكمله. فيلليني لم يكن مسحورًا بالسينما، ولم يبدِ الكثير من الحب لها، ولم ينشأ متعلقًا بها، لم يقرأ الكثير عنها، بل إنه ليس مثقفًا أو قارئًا متعمقًا حتى. يقول عن نفسه: "لا أعرف كلاسيكيات السينما: مونرو، دراير، إيزنشتاين إذ لم أشاهد أعمالهم أبدًا، يا للخجل!". وفي موضع آخر، كان ساخرًا يقول: "من الواضح أنّي لست مثقفًا، ولا شبه مثقف؛ ففي كل مرَّة حاولت فيها قراءة مجلّد ضخم كان علي أن أتوقف، كنت أشعر بالحاجة للسعال تائهًا ومهجورًا في هذه الصحراء الورقية".
عرف السينما عن طريق الصدفة، فبدأ كاتبًا هاويًا للسيناريو، حتى لقائه بروسيلليني في العام 1944، حينما تعاون معه في كتابة فيلمه "روما مدينة مفتوحة"؛ والذي سيكون لحظة بزوغ نجم فيلليني في عالم السينما. روسيلليني كان معلم فيلليني الأول، وهو الرّجل الذي يدين له بالفضل دائمًا. لكن، وإن كان تتلمذ على يديه؛ إلا أنه أخذ عنه التقنيات وفنّ الصنعة، ليضيف إليها أسلوبه الخاص فيما بعد. يقول عنه: "روسيلليني كان بمثابة رجل مرور ساعدني على عبور الشارع. أعترف له بأبوّة شبيهة بأبوّة آدم، كأنه جدّ نتحدّر منه جميعًا. لقد سهَّل عليَّ الانتقال من مرحلة سادها الضباب والكسل والتخبط إلى مرحلة السينما".
في بيئة سينمائية موغلة في الواقعيّة، مات الخيال، ولم يكن هناك من مجال لانتشار الفكاهة. روسيلليني، فيتوريو دي سيكا، جوزيبي دي سانتيس، لوتشيانو فيسكونتي، ألبيرتو لاتودا، وآخرين شكّلوا جوقة من قديسي الواقع. صانعو أفلام جادة، أمامهم رؤية الموجة الجديدة التي يجب تحقيقها، ومن خلفهم كان كل النقاد والمشتغلين بالسينما يشدّون على أيديهم فيما يسعون إليه. دخل فيلليني هذه البيئة كاتبًا، خضع للقوانين غير المكتوبة، وأنتج نصوص الأفلام كما أريد لها أن تكون، لكنَّ ذهنه كان بعيدًا، يتطلع لشيء آخر كلّي الاختلاف. فيدريكو كان حتميَّة تاريخيَّة. حركة كونيَّة طبيعيَّة، تغيير في اتجاه معاكس، ليس لخلق الاتزان، وانما لإظهار الاختلاف وإثراء المشهد. كان رسول الخيال الذي بُعث لعالم جادٍ، واقعي وممل.. أو كما تصوّره هو ورآه.
أهميّة فيلليني كانت في تقديم مضاد لكل ما هو سائد، وملئ فراغ كان كثيرون بحاجة إليه. الأديب الإيطالي المعروف إيتالو كالفينو (1923-1985) كان خير من تناول الحاجة لحضور صانع أفلام مثل فيلليني في المشهد؛ حينما تحدث عن تجربته كمحب للسينما. بدأ بمشاهدة أفلام هوليوود طفلًا قبل الحرب، في ورقة له نشرها منتصف السبعينات بعنوان "سيرة ذاتية لمشاهد": "الحياة الرتيبة والمبتذلة في الريف دفعتني نحو السينما. ماذا كانت السينما تمثّل بالنسبة لي حينها؟ المسافة. كانت السينما هي إجابة عن حاجتي للمسافة إلى تمديد الواقع، وتوسيع أبعاده لتكون غير قابلة للقياس، مجردة مثل كيانات هندسيّة لكنها واقعية، مليئة بوجوه ومواقف وأجواء، تنسج مع عالم التجربة المباشرة شبكة من العلاقات (...) في فترة ما بعد الحرب تمّت صناعة ومشاهدة ومناقشة السينما بطريقة مختلفة تمامًا. لقد غيرت السينما الإيطالية ما بعد الحرب نظرتنا للعالم، لكنها لم تقدّم إلّا عالمًا واحدًا. لم يعد هناك عالمان: عالم الشاشة المضيئة وآخر مختلف تمامًا في الخارج (...) اختفت القاعة المظلمة وباتت الشاشة عدسة تكبير تمّ تثبيتها فوق حياتنا اليومية، ترغمنا على التمعُّن فيها دون توقف. إن لهذه الوظيفة منفعتها التي ربما تكون صغيرة أو كبيرة، غير أنها لا تشبع حاجة البشر الاجتماعية للمسافات". وبالعودة إلى فيلليني؛ فالرجل بمشروعه الثوري أعاد خلق المسافة، وأعاد للمشاهد الفرصة في أن يتسامى على حياته، ويعيش بعيدًا عنها ولربما ينساها طوال وجوده في قاعة السينما.
قِيل "بتضادها تعرف الأشياء"، وإن كان من تضادٍ يمكن أن يجلي ويوضح؛ فإنه ذاك بين رؤى فيلليني السينمائية وكل من أحاطوا به في ذلك الزمن. الرجل حاول تلافي الصراع، وبذكاء بدأ الصناعة السينمائية مستخدمًا تقنيات موجة الواقعية الجديد، رغمًا عن ذلك أفكار أفلامه والأسلوب الذي اتبعه كانا مختلفين، وتنبه إليه النّقاد السينمائيون سريعًا.
"الشيخ الأبيض (1952)" كان أول عمل يخرجه منفردًا، بعد أن عمِل لأكثر من تسع سنواتٍ كاتبًا للسيناريو. الفيلم مستوحى من نواة قصّة قصيرة كتبها مايكل-أنجلو أنطونيوني، أتبعه بفيلمه الثاني "فيتيلوني (1953)" الذي يحكي قصّة خمسة فتيان طائشين، يمرون بفترة حرجة من حياتهم، لكنهم يقضون أوقاتهم بالتسكع في شوارع مدينتهم الصغيرة. هذان الفلمان حازا نجاحًا محدودًا، أوصل اسم فيدريكو إلى شباك التذاكر، ومهدا الطريق لفيلمه الهام الأول: "الطريق (1954)"، حكاية رجل السيرك زامبانو والفتاة الساذجة جيلسومينا. فيلم ولد من رحم الموجة وحقق نجاحًا باهرًا. فتلقاه المشاهدون بحفاوة، وتُوِّج بجوائز عدّة أهمها جائزة الأوسكار عن أفضل فيلم بلغة أجنبية، وكذلك توّج فيلليني بجائزة الأسد الفضي في مهرجان فينيسيا السينمائي.
الفيلم أوضح الثيمة العامة لمزاج فيلليني السينمائي، فنلمح اهتمامه بالشخصيات المنبوذة وغير المألوفة، ونرى اهتمامًا بالفكاهة، وابتعادًا عن التقاليد. ثم عاد ليؤكد رؤاه في أهم أفلامه في تلك الفترة "ليالي كابيريا (1957)"، راويًا قصّة العاهرة ماريا الباحثة عن الحبّ في الشوارع دون أن تجد إلا الخيبات. للعمل أهميّته الخاصّة في مسيرة فيلليني؛ فهو الأول الذي نلمح به توظيفًا للعوالم الداخليَّة ونرى أشكالًا عجائبية تحيلنا إلى الأحلام. الناقد الفرنسي الشهير أندريه بازان في استعراضه لهذا الفيلم ابتكر -وللمرّة الأولى- المصطلح الأهم ربما في هذا المجال: "سينما المؤلف"؛ حيث كان طريقته لتناول ما يصنعه فيلليني.
لم يكن فيدريكو شجاعًا بما يكفي في مرحلته الأولى والتي امتدت حتى نهاية الخمسينات، وإن كان ذكيًّا جدًا في التعامل مع البداية. فهو أخذ كامل الوقت ليصنع رواجًا لاسمِهِ ومكانته بين صانعي الأفلام الإيطاليين، قبل أن يبدأ حقبة جديدة ومختلفة تمامًا مع بداية الستينات. ستسقط من خلالها كل الأقنعة، ويتجه مباشرة لأهدافه التي يريد الوصول إليها من خلال العمل السينمائي. سنبدأ رؤية عوالمه الداخليّة، سنرى أحلامه تصوّر يقظة في المشاهد، سنضيع بلذّة في أفلامه الموغلة في الذاتيّة والتي لا تكاد تفهم أحيانًا. عالم من السّحر والخيال، وقطيعة كاملة مع كل ما عرفته السينما في تاريخها حتى ذلك الحين.
فتاة ساطعة بفستان أبيض، تسير أحد الصباحات على رصيف شارع فينيتو في روما، تهبّ نسمة هواء، يتحرك الفستان. فيلليني جالس على مقعده اليومي، يشرب القهوة، وضع الصحيفة جانبًا، طالع المشهد. وهنا تولّدت في رأسه فكرة فيلم "الحياة حلوة (1960)". تبدو غريبة هذه القصّة، ولكنها الطريقة التي يعمل بها عقل فيلليني، وهي الطريقة التي يسيّر بها مشاريعه السينمائية. في هذا الفيلم، فيلليني لن يهادن أحدًا، سيدخل مباشرة لعوالمه الخياليّة، ثم سيمزجها بأحلامه بشكل واضح. قصيدة طويلة تحكي أسطورة الطبقات الثريّة في روما. يفتتح الفيلم بمشهد أيقوني: طائرة هليكوبتر تحمل تمثالًا ضخمًا للمسيح، في شكل مهيب، تسير في السماء بهدوء قاصدة الهدف، غير أن الكاميرا تذهب إلى قُمْرَة القيادة؛ أين سنجد الطيار ومساعده يتبادلان الحديث عن النساء المستلقيات في الأسفل تحت الشمس بملابس السباحة، عن جمال أجسادهن، وكم هنّ فاتنات. سخرية رهيبة حواها هذا الفيلم، رغم طوله، حيث تجاوز ثلاث ساعات، إلا أنه كان متقنًا، تبدي مشاهده جهدًا كبيرًا تمّ بذله لإنتاجها.
رحلة فيلليني في السينما الذاتيّة أخذت منحنى أكثر عمقًا في الستينات، وبدأت ثيمة أفلامه تصبح أكثر وضوحًا؛ خاصة مع صدور فيلمه "8½ (1963)". المشهد الافتتاحي للفيلم يصنّفه الكثيرون من أفضل المشاهد في تاريخ السينما. البطل المختنق والمنحبس وسط سيارته، التي تعطلت وبدأت تطلق دخانًا داخل قمرة القيادة، في حرارة الجو الرهيبة، والزحام المروري القاسي، يخرج من نافذة السيارة، يحلّق عاليًا، وسرعان ما يكتشف أنه مربوط بحبل، يمنعه من الارتفاع أكثر. ربما يكون حبل الواقع؟ ربما يكون حبل الذاكرة؟ ربما يكون حبلاً من حلم بعيد لا يعرف حتى صاحب فكرته معناه؟!
حيرة تلبسك إياها سينما فيلليني، وهي حيرة لذيذة بلا شك، وهي تعيدنا إلى علاقة فيلليني بالفيلسوف والطبيب النفسي السويسري كارل يونغ، الذي -وبالعودة إلى أفكاره في تحليل الأحلام- سنجد الطريق لوضع أفلام فيلليني في سياقها الصحيح. بحسب يونغ؛ فإن للأحلام قيمة عرفانية، وليست مجرد مجرَّد تعبير عن الرغبات غير المشبعة. الأحلام ليست رغبات مكبوتة في اللاوعي، بل هي أكثر من ذلك، إنها رسائل من النفس الكليّة تعلمنا بأمور عميقة، تتسامى على الراهن واللحظي. وهذا التفسير يروق كثيرًا لفيلليني، الذي يعطي الأحلام قيمة عُليا. ومن هنا يسوّغ فيلليني لنظريته في استخدام الأحلام ومزجها بالخيال في أفلامه، فكما يدّعي هو في غير موضع "الأحلام هي الحقيقة الوحيدة". وكذلك تتبلور رؤيته بشكل أوضح حينما يصوغها في إطار الفلسفة النفسية ليونغ: "لا يمكن تصوير فيلم عن الأحلام بشكل مجرد بعيدًا عن شخصيّة الحالم. لا يمكن إخراج فيلم مجرّد عن عالمٍ سحري".
العنصر الآخر صاحب الأهمية في نسيج أسلوب فيلليني السينمائي هو السيرة الذاتيّة، فهو دائمًا يرى أن كل أعماله هي شكل من أشكال ذاته: "أعتقد أنني حتى لو عملت فيلمًا عن كلب أو كرسي، لكان سيرة ذاتية إلى حد ما". وبجمع أفلام فيلليني في مسيرته الطويلة، سنجد أنه -بشكل أو بآخر- روى قصة حياته، بشكل غير معتاد، فهو لم يروِ القصة الخارجية فقط؛ وإنما الوجدانية والذهنية واللاواعية كذلك. لقد حكى تجاربه، آماله، أحلامه، مخاوفه، أفكاره. ولم يغفل شيئًا. ولذا كان مشروعه شاملًا ومتكاملًا. ولذا كان له تفرّده الخاص، الذي رسم طريقًا لكثيرين ساروا من خلفه واتبعوا خطواته.
في أكتوبر من العام 1993 توفي فيلليني. عاش حياة طويلة، ومات بعمر الثلاثة والسبعين، بعدما فقد القدرة على النوم بسبب الألم والمرض. لم تكن له حياة واحدة، بل كانت حيواتٍ عدّة، بين الواقع، والوهم والخيال والأحلام. قبل وفاته بعدّة أشهر كرمته الأكاديمية بجائزة أوسكار شرفيّة عن مُجمل مسيرته الطويلة. ورحل مخلفًا 28 فيلمًا من صناعته وإخراجه، والكثير من الشخصيات والنظريات والأفكار السينمائية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

أ. قيس عبداللطيف
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا