في مشهد بديع من فيلم «عن الأبدية» (2019) يحاول روي أندرسون تلخيص مأزق الدين في السياق الأوروبي اليوم،
في العالم غربي الهوى، فاقد الإيمان، المقدِّس للرأسمالية، والذي يبدو البشر فيه، كما يصورهم أندرسون في رباعيته، جثثًا
تتحرك دون دافع، تطارد المال بقلوب خاوية، فإنسان أندرسون يتحرك وكأنه زومبي في حياة عبثية لا وجهة لها، يجابه
الوجود والحياة والفقد والتيه والموت بلا سلاح، يراوح مكانه بين التيه وفقدان الإيمان والبحث عن الحب والمال ليعالج
أزمة وجوده.
يبدأ المشهد بحشد من البشر يشتمون ويجلدون رجل الدين (القس العجوز) الذي يحمل صليبًا ضخمًا ثقيلاً بالكاد يقوى
على حمله، واضعًا «إكليل» المسيح على رأسه. إنه كابوس مفزع يراود القس الذي يستيقظ صارخًا فزعًا: «لقد وضعوا
المسامير في كفي لكنها اختفت الآن». ينتقل المشهد إلى عيادة الطبيب النفسي، إذ يجلس القس العجوز وجهًا لوجه أمام
الطبيب العجوز، مشتكيًا من الكوابيس التي تداهمه، فيأتي رد الطبيب: «لا تخجل من هذا، كل مرضاي تداهمهم كوابيس
مختلفة، لكن هذا الكابوس مختلف ولم أصادف مثله من قبل». ربما لم يسبق وأن تراجع الدين عن مكانته في أوروبا
الغربية وأمريكا الشمالية تراجعه اليوم على مر التاريخ، فتاريخ أوروبا، واستعمار القارة الأمريكية، هو تاريخ ديني
بامتياز، وصبغته المسيحية بظلالها منذ تحول الإمبراطورية الوثنية الرومانية إلى المسيحية على يد الإمبراطور قسطنطين
في القرن الرابع الميلادي، إذ كان الدين حتى فجر الحداثة المحرك الرئيس للمجتمع والدولة الغربية، ومع الحداثة،
والانزياح الفلسفي من مركزية الإله أو الدين إلى مركزية الإنسان أو العقل، بدأ هذا المحرك الديني بالتراجع في مخاض
طويل، وحروب طاحنة منذ الثورة الفرنسية، لم تنتهِ إلا بعد الحرب العالمية الثانية بقارة محطمة، وأكوام جثث، وإيمان
مهزوم.
يستمر المشهد ببرود مريب، يبدأ الطبيب في محاولة الكشف عن دوافع هذا الكابوس الذي يحاكي صلب المسيح، فيقول
القس: «راودني الكابوس بعد أن فقدت إيماني، لم أعد أومن بالرب». يستنكر الطبيب: «لكنك قس»، فيرد رجل الدين:
«نعم، لكنها وظيفتي أن أعظ بكلمة الرب»، وهنا ينتقل الحوار حول وجود الإله بين الاثنين، إذ يقول الطبيب: «ألا يعني
هذا ألّا وجود للإله؟»، فيجاوب القس: «سيكون هذا فظيعًا.. بماذا نؤمن في تلك الحالة؟» فيعلق الطبيب: «لا أدري..
لنبتهج بوجودنا أحياء»، ثم ينتقل الحديث، بنبرة إجرائية، إلى مصاريف العلاج، إذ إن كليهما، القس والطبيب، يعملان من
أجل المال في نهاية المطاف!
يأتي موضوع الإيمان هنا بصورة باردة وإجرائية، ففي النهاية كلاهما، القس والطبيب، يتحدثان عن «عارض نفسي»،
كابوس مزعج أصاب رجل الدين، وعند محاولة الحديث عن أصل هذه المشكلة، فقدان الإيمان، لا يبدو أن الطبيب يملك
ما يقوله لرجل الدين، لذا يتحول الحديث سريعًا إلى «الإجراءات العلاجية» ومواصلة الجلسات النفسية، والتفاهم حول
مواعيد الجلسة القادمة وتكاليفها، فالإيمان هنا، أو فقدان الإيمان، عارض نفسي في السياق الغربي، لم يعد سؤالاً فلسفيًا، أو
هاجسًا وجوديًا، وإنما عارض يحاول الطبيب علاجه (هل يستطيع!)
ينتقل المشهد إلى الكنيسة، وقبل «إقامة القداس» يشرب القس كثيرًا من الخمر، ليبدأ حواره مناجيًا الإله: «لماذا تخليت
عني؟»، ليدخل بعدها مترنحًا لإقامة الطقس الديني، ليقول «كلمة الرب» الذي ما عاد يؤمن به، لمجموعة من المؤمنين
(هل هم مؤمنون حقًا؟) يأتي القس المخمور، المترنح، ممثلاً للكنيسة في العالم الحديث، فقد أصبحت غائبة عن المشهد
العام، تأثيرها محدود، وتسير مترنحة بلا هدف، في عالم يراوح مكانه بين البنك، وعيادة الدكتور النفسي، فلا القس
(الموظف) مؤمن بما يقول، ولا يبدو أن المؤمنين يعبئون بترنحه بينهم، فلا أحد منهم يبدو منتبهًا لترنح «الدين» بينهم،
وكأن الأدوار هنا شكلية، متوارثة، بلا معنى أو هدف، فلم يعد للدين مكانًا أو مكانة، فهو جزء من المشهد بلا روح.
نعود إلى العيادة، لينتهي مشهد القس والطبيب النفسي نهائية مأساوية، ساخرة، ومؤلمة. يذهب رجل الدين، بلا موعد، إلى
عيادة الطبيب النفسي، يقف أمام باب العيادة متسائلاً بيأس: «ماذا نفعل عندما نفقد إيماننا؟» فترد عليه منسقة المواعيد:
«أنا آسفه لكننا على وشك إغلاق العيادة». يعيد القس سؤاله بإلحاح: «ماذا نفعل عندما نفقد إيماننا؟» ليدخل إلى العيادة
مطالبًا بالحديث إلى الطبيب، لترد منسقة المواعيد: «هذا غير ممكن.. أنا آسفه لكننا على وشك إغلاق العيادة.. الطبيب
ذاهب إلى منزله». يجاوب القس: «أرجوكم.. أرجوكم». يظهر الطبيب، نازعًا رداءه الأبيض، خارجًا من عيادته، ليقول
رجل الدين للمرة الثالثة: «ماذا نفعل عندما نفقد إيماننا؟». تقول منسقة المواعيد: «أنا آسفه لكننا على وشك إغلاق
العيادة.. لديك موعد بعد أسبوع». يقاطعهما الطبيب: «أنا آسف.. عليّ اللحاق بموعد الحافلة التي تقلّني إلى المنزل».
يقول رجل الدين للمرة الرابعة: «ماذا نفعل عندما نفقد إيماننا؟». يُعاد السؤال مرة خامسة وسادسة، فيعتذر الطبيب
ومنسقة المواعيد، ويدفعان رجل الدين خارج العيادة، مكررين إجاباتهما نفسها، حتى أغلقا الباب في وجهه، ليقول الطبيب:
«عليّ اللحاق بموعد الحافلة».
لم يعد للدين معنى في السياق الأوروبي، وكأن سلطته وهيبته انتقلت إلى الطبيب النفسي، والذي لا يملك ما يقوله في هذه
المسألة، وكأن كل ما يستطيع الطبيب النفسي تقديمه اليوم محاولة علاج الكوابيس الناتجة عن فقدان الإيمان، أعراض
الجائحة التي ضربت أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، أما مسألة الإيمان نفسها، ففقدت معناها. الحديث اليوم عن مواعيد
الجلسات النفسية، وتكاليفها، والإسراع للعودة إلى المنزل، ومعرفة مواعيد تحرك وسائل النقل. هذا العالم «الإجرائي»
فاقد المعنى، يبحث عن مرشد، فبعد تراجع الكاهن والعرّاف الوثني لصالح رجل الدين، يبدو وكأن الأخير كُتب عليه أن
يُستبدل به اليوم الطبيب النفسي، واستُبدلت بالكنائس العيادات، وبالقداس الجلسات النفسية، في عالم يراوح بين مقرات
العمل، والبنوك، والعيادات النفسية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش