مقالات

(2): هدم العائلة وإعادة بنائها على طريقة «ويس أندرسون» (رحلة صيد)

في العام 1798 دشّن الشاعر الإنجليزي ويليام ووردزوورث وصديق عمره الشاعر صامويل ت. كولريدج الحركة الرومانسية في الأدب الإنجليزي عبر نشرهما ديوان «الترنيمات الغنائية وقليل من القصائد الأخرى» Lyrical Ballads, with a Few Other Poems، وقد حوى عديدًا من القصائد التأسيسية كان أهمها على الإطلاق قصيدة كولريدج «رقصة البحّار المُسن»، التي بها سنسحب المرساة ونبحر مع «ويس أندرسون» على أمواج الحياة المترددة:

 

«يومًا بعد آخر، يومًا بعد آخر،

عالقون نحن، لا نتحرك أو نتنفس،

ساكنون مثل سفينة مرسومة

طافية على محيطٍ مرسوم.

 

مياه.. مياه، في كل مكان،

وكلّ الألواحِ انكمشت،

مياه.. مياه، في كل مكان،

وما من قطرة ماء واحدة لنشربها.

 

الأعماق تعفّنت: يا إلهي!

كيف يتأتى لمثل هذا أن يحدث!

الأشياء اللزجة كانت هناك

تزحف بسيقان فوق البحر اللّزج».

 

بين أيدينا أحد أسوء أفلام مسيرة أندرسون؛ فشل على كلّ الأصعدة تقريبًا: تقنيًا، فنّيًا، جماليًا، وحتى على شبّاك التذاكر لم يحصد أي نجاحٍ مالي. بسببه انهالت الانتقادات العنيفة على المخرج والطاقم من النقاد والمشاهدين، فيلم لا نجد فيه كثيرًا من ملامح مخرجه التي عرفناه بها -مع استثناءات قليلة. «الحياة المائية مع ستيف زيسو» (2004) The Life Aquatic With Steve Zissou فيلم حتى وإن تمّت مجاملته سيوصف في أفضل الحالات بأنه «جيّد». إذًا ما الحاجة إلى الحديث عنه؟ ليست الرغبة في تتبع الفشل واستقرائه لصنع الاتزان، وإنما لأهميته كإحدى مراحل مشروع أندرسون السينمائي، أفكار الفيلم وقصّته تشكل نقاطًا محورية لفهم فلسفة أندرسون ونظرته للحياة التي يعبر عنها من خلال أفلامه، التي -وإن كانت تحظى بالنجاح التجاري والرواج العالمي- تحتفظ بمكانتها لديه وهو الذي ينظر إليها كمنتج فنّي-تعبيري يصب فيه السيرة الذاتية والأفكار والتصورات، فالأفلام هي صوته.

الفيلم بحر من الفوضى، يُفتتح بمشهد جمالي هزلي تجري أحداثه على مسرح صالة عرض أوبرالية بإحدى المدن الإيطالية. الجمهور حضر باكرًا؛ ليس هناك كرسي فارغ. المقدم يعتلي خشبة المسرح، يتحدث بكلمات مقتضبة عن القبطان ستيف زيسو (بيل موري) الذي ستشهد الصالة العرض الأول لفيلمه الوثائقي الجديد، ومن ثم يبدأ الفيلم برؤية القبطان، رجل البِحار الذي يصوّر رحلاته ومغامراته في أفلام وثائقيّة مشوّقة، مُعرفًا التفاصيل العريضة، وندخل سريعًا نحو المغامرة الأولى: كاميرا مترجفة تصوّر لحظات موت الغطاس الرئيس في الطاقم، إستيبان دو بلانتيه، الذي ابتلعته سمكة قرش الجاغوار الضخمة. لقطة في ظاهرها مأسوية، القبطان في حالة هستيرية يصيح لطاقمه زافًا إليهم الخبر، والمياه تلوّنت بحمرة الدّم القانية. وفي خضمّ كل هذا تجد أنك مدفوعٌ بطريقة ما نحو الضّحك، فالمشهد كوميدي رُغم كل ما يحويه من تراجيديا والفضل في ذلك يعود إلى الطريقة التي كُتب بها نصّه ومن ثمّ صُور بها. إنها الأوتار التي يلعب عليها ويس أندرسون، ليخلق الميلودراما الخاصّة به.

نمضي في رحلة الفيلم، بين الأحداث العجيبة والمغامرات المشوّقة، التي تمّ تصويرها وإخراجها بطريقة ركيكة، يغيب فيها بشكل عجيب سعي أندرسون الهوسي نحو الكمال. لأن كل هذه الأحداث هي القشرة الخارجية وليس لها أهمية؟ ربما.

 

القصّة الكبيرة تنشأ من فتات صغيرة:

في العام 1997 وبسكتة قلبية بعد 14 يومًا من احتفاله بعيد ميلاده الـ87 تُوفي الضابط البحري وعالِم المحيطات الفرنسي جاك-إيف كوستو، مخلفًا وراءه إرثًا ضخمًا من الاكتشافات البحرية الهامة والاختراعات التي ساهمت بشكل مباشر في أن يكون عالمَ الغوص كما نعرفه اليوم. كوستو كان إنتاجه غزيرًا؛ ألف أكثر من 50 كتابًا وساهم في إنتاج 120 فيلمًا وثائقيًا عن البحار والمحيطات. ويس أندرسون أحبه كثيرًا منذ طفولته حيث كان شغوفًا بكتبه وأفلامه، وقد كتب مشهدًا مسرحيًا قصيرًا عن إحدى مغامراته حينما كان طالبًا في الجامعة، وبعد وفاته شعر برغبة في أن يعمل على تكريم تخيّلي له، ومن هنا وُلدت فكرة فيلم «الحياة المائية مع ستيف زيسو».

استعاد أندرسون النّص القديم من أدراجه، نفض عنه الغبار، ومن ثمّ عرض الفكرة على صديقه نواه بومباخ (الذي سيصير عمّا قريب من هذا الحدث مخرجًا هامًا). أعجب «نواه» بالمقترح، وقرر الانضمام إلى صديقه في مشروع تحويل نواة النّص الصغير إلى سيناريو فيلم طويل. يروي لنا ريتشارد برودي خبايا القصّة وما حدث من تفاصيل: «التقى الثنائي بشكل يومي على مدار العام 2000 في "بيتي بار"، بحي ويست فيليج في نيويورك. كل لقاء يبدأ بغداء متأخر ومن ثمّ ينطلق العمل حتّى يحين موعد العشاء. بومباخ قال لي: "لا أعتقد بأننا جلسنا أمام جهاز كمبيوتر قط، لقاءاتنا كانت امتدادًا لصداقتنا. بدأ الأمر بنقاشات صغيرة، ومن ثمّ قال أحدنا للآخر، لماذا لا نحول هذا النّص إلى شيء ما!" بحثًا عن الإلهام، شاهد أندرسون وبومباخ أفلامًا كثيرة لها اتصال بما يعملان عليه. تتضمن القائمة: "يوم الدولفين" (1973) Day of the Dolphin و"بطل محلي" (1983) Local Hero و"كنز الأم تريزا" (1947) The Treasure of the Sierra Madre و"همهمة القلب" (1971) Le Souffle au Coeur، فيلم المخرج الفرنسي "لويس مال" ويعود سبب اختياره تحديدًا إلى أن "مال" قد عمِل في الخمسينيات مع جاك كوستو. أضاف بومباخ: "لقد جمعْنا الأشياء التي أحبها كوستو وتواصل معها، كذلك ظللنا نبحث عن الأشخاص الذين عمل معهم، وهكذا كوّنّا نسيج الفيلم الأساسي". قصّة الفيلم حَوَت عناصرَ من فيلم فيدريكو فيلليني 8½ (1963) ورواية هرمان ميلفل "موبي ديك" وكذلك فيلم "النهر الأحمر" (1948) Red River لمخرجه هاورد هوكس».

 

القبطان زيسو – الأب الضال للابن الضائع

في بداية الفيلم نتعرف على شخصيّة الطيّار نيد بليمبتون (أوين ويلسون)، الذي يَحضرُ العرض الأول للفيلم الوثائقي، ومن ثمّ يتقرّب من القبطان زيسو ليتعرف عليه ويعلن سريعًا رغبته في الانضمام إلى طاقمه، وشيئًا فشيئًا تبدأ حكايته بالتكشّف، فنفهم بأنه ابن القبطان الذي أعلنت له أمّه للمرّة الأولى قبل وفاتها بلحظات حقيقة السّر الذي ظلّت تخفيه عنه لسنوات طويلة. القبطان هجر الأم، ولم يعِر أي اهتمام لحملها ولا لإنجابها وولادتها وظلّ يطارد شغفه الجنوني بالبحار والمغامرات رفقة طاقمه. تربّى الابن بعيدًا في مدينة هادئة، مع أمه ودون أي أثر لوالده في حياته.

كان نيد محمّلًا بمشاعره المتضاربة تجاه أبيه، فيما كان القبطان يتعامل معه بكلّ آلية، دون أي مشاعر حقيقية، ودون أي إحساس بفداحة الجرم الذي ارتكبه.

«في فيلم "الحياة المائية مع ستيف زيسو" تجري كثيرٌ من الأحداث دون أن يحدث شيء حقًا. هناك قراصنة، وإطلاق نار. هناك صراعات وغمغمات تمرّد تسري بين أفراد الطاقم. لكن فوق هذا كلّه هناك الحبكة الجانبيّة الحزينة، والتي قد تشير أو لا تشير إلى شخصية مارينا من مسرحية ويليام شكسبير "بريكليس"، حيث يتعرف أبٌ تحمله الأمواج على طفله الضائع»، هكذا لخّص أنتوني لين ناقد صحيفة النيويوركر الفيلم حينما استعرضه في مقالة بعنوان: «اذهب للصّيد»، كتبها في العام 2005.

هدم العائلة وإعادة بنائها في هذا الفصل من مسيرة أندرسون السينمائية له طابع مختلف تمامًا عمّا كان عليه في فيلم The Royal Tenenbaums؛ هنا تغيب الثورة على سلطة العائلة، ولا رغبة لتحطيم وجودها، فعلى العكس، العائلة في هذا الفيلم هي الملاذ المتخيّل للأبطال، يأتون سعيًا إليه قاطعين المسافات الطويلة. نيد ظلّ يبحث عن والده الذي هجره حتى وصل إليه؛ كل هذا في سبيل إيجاد معنى لوجوده وحياته بعد وفاة أمّه. لقد واجه خيبة الأمل التي لقيها جراء رد فعل والده البارد وغير المكترث كثيرًا بظهوره، لأنه كان يبحث عن شيء أسمى، يبحث عن إعادة إحياء العائلة. والده نفسه سينهار زواجه المحطّم أصلًا، وحينها سيلتفت إلى ابنه الذي عاد إليه، محاولًا إيجاد روابط تجمعه به، سعي آخر نحو العائلة. كلاهما سيسير رفقة الآخر، رغم كل آلام الماضي، ورغم كل خلافات الحاضر.

ما الذي تغيّر إذًا.. كيف انتقل النّص من معالم الثّورة العارمة على العائلة وسلطتها إلى الرغبة الشديدة في الانتماء إليها؟ -قبل الإجابة يجب تذكّر أن السيرة الذاتية هي مفتاح أفلام ويس أندرسون- الفارق يكمن بين ما هو واقعي وما هو متخيّل بالنسبة إلى ويس أندرسون. «عائلة رويال تينينباوم» هي لحظة اقتباس للسيرة الذاتية والماضي الشخصي، فيما «الحياة المائية» تمثل الآمال المتخيّلة والرغبات الدفينة، وأندرسون متردد بين تلك التي يريد هدمها وبين هذه التي يريد بناءها والاستظلال تحتها. خياله ليس حالمًا تمامًا، فالعلاقة التي تنشأ بين نيد والقبطان زيسو ليست مثالية، بل عامرة بالمشكلات والصراعات، وتشبه الحياة التي لا يمكن أن تصفو ويغيبَ فيها الكدر أبدًا، لكنّها في الآن نفسه علاقة حميمة، عاطفية، يحبّ فيها الأب ابنه، ويتطلع فيها الابن إلى والده. مَشاهد النهاية التراجيدية تروي هذه القصّة، وتقول لنا بوضوح مدى ارتباطها بمخيّلة أندرسون الشخصية وبآماله تجاه والده الذي هجره هو وأخوته حينما كانوا صغارًا. هل كان يحلم بأن يلتقي أباه ويستعيد ما يربط بينهما؟ أظن أن الإجابة هي «نعم».

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

أ. قيس عبداللطيف
March 18, 2024
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا